قال الداني آل الزهوي في تعليقه على الأخنائية ص 80 :
” ذهب بعض العلماء إلى القول بأنه لا يجوز الوقوع من قبل الأنبياء
في الكبائر والصغائر مطلقاً ، لا على جهة العمد ولا على جهة السهو”.
حتى قال :” ولتفصيل المسألة ، انظر المحصول للرازي ( 3/ 225_
228) ، والتحصيل من المحصول للأرموي (1/ 433_ 434) ، ونفائس الأصول في شرح المحصول
للقرافي (5/ 2392_ 2397) ونهاية الوصول في دراية الأصول لصفي الدين الهندي (5/
2113_2120) ونهاية الوصول إلى علم الأصول (2/641_ 643) ، والأحكام للآمدي (1/170)
“.
أقول : غفر الله لك أبمثل هذا يعلق على كتب شيخ الإسلام ؟!
الواجب ترك ذكر المتكلمين عند
الكلام على مسألةٍ عقدية خطيرة مثل هذه ، والمسألة إجماعية قولك فيها ( اختلف العلماء
) ، قد يوهم القاريء اعتبار الخلاف في المسألة
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/ 319) :
” فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ
دُونَ الصَّغَائِرِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَجَمِيعِ الطَّوَائِفِ
حَتَّى إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَ ” أَبُو الْحَسَنِ
الآمدي ” أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ
أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ بَلْ هُوَ لَمْ يَنْقُلْ
عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَّا
مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ”.
وقال في منهاج السنة (2/400) :
” والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها والجمهور الذين يقولون
بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها” .
وقال في الرد على البكري ص406
:
” الوجه الخامس أن يقال الناس لهم في جواز وقوع الذنب من الأنبياء
قولان، فالسلف و الأكثرون يقولون بجواز ذلك وإن كانوا معصومين عن الإقرار عليه”.
وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف
الحديث ص 30 :
” والناس قد يظنون ويزلون ، وإذا كان هذا جائزاً على النبيين والمرسلين
فهو على غيرهم أجوز “.
أقول : فإذا كانت المسألة إجماعية بين السلف ، فلا داعي لذكر كلام المتكلمين
فيها ، والعزو إلى كتبهم التي يذكرون فيها الأقوال المحدثة والأقوال السلفية على حد
سواء .
وقد نقض شيخ الإسلام تأويل من
أول قول الله عز وجل (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخرَ ) بأن
المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته.
فقال كما في جامع المسائل
(4/28) تحقيق محمد عزيز شمس :
” وهذا الدعاء الذي ذكرته عائشة بعد نزول قوله: (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ
مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخرَ) ، فإنه قد ثبت في الصحيح أن سورة “إذا جاء
نصر الله والفتح” آخر سورةٍ أُنزلتْ.
وأيضًا فأبو موسى الأشعري وأبو
هريرة إنما صَحِبَاه بعد نزول قوله: (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا
تَأَخَرَ) ، فإن هذه الآية قد ثبت في الصحيح أنها نزلتْ عامَ الحديبية لما بايعَه الصحابةُ
بيعةَ الرضوان تحت الشجرة وانصرفَ.
وقد خالط أصحابَه كآبةٌ وحُزنٌ
لرجوعهم، ولم يتِمُّوا العمرةَ التي خرجوا لها، وقد صالحوا المشركين، لما أن في ظاهره
غَضاضةً عليهم، حتى كرهَه كثيرٌ منهم، وجَرتْ فيه فصولٌ .
فأنزل الله سورةَ الفتح بنُصرتِه
من الحديبية ، وهو في الطريق قبلَ وصولهِ إلى المدينة، ثم إنه تَجهَّزَ من المدينةِ
لفتح خيبر، وفي أواخر غَزاةِ خيبر قَدِمَ عليه أبو موسى والأشعريون، وفي تلك المدة
أسلم أبو هريرة.
ولما أنزلَ اللهُ عليه هذه الآية (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن
ذنبك وَمَا تَأخَّرَ) قال له الناسِ: يا رسولَ الله! هذا لك، فما لنا؟
فأنزل الله تعالى (هُوَ الذي أَنزلَ
اَلسكينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزدَادواْ إِيمُانا مع إيمانهم) .
وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ من الناس – كبعض المصنِّفين في السِّيَر وفي مسألة
العصمة – يقولون في قوله (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنبك) : وهو ذنبُ
آدم، (وَمَا تَأَخرَ) ذنبُ أمتِه، فإن هذا القولَ وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة
والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول، فقد قاله طائفة من المتأخرين
.
ويَظُنُّ بعضُ الجهال أن هذا معنى
شريف، وهو كذب على الله وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه.
فإنه قد ثبت في الصحاح في أحاديث
الشفاعة أن الناسَ يومَ القيامة يأتون آدمَ يَطلبون منه الشفاعةَ، فيعتذِرُ إليهم ويقول:
إني نُهِيْتُ عن الشجرة فأكلتُ منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيًّا بعد نبي إلى أن يَأتوا
المسيحَ، فيقول: ائْتُوا محمدًا فإنه عبد قد غفرَ اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فلو كانت “ما تقدم”
هو ذنب آدم لم يعتذر آدم.
وأيضًا فلما نزلتِ الآية قالت الصحابةُ: هذا لكَ فما لنا؟ فأنزل الله:
(هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ السكينَةَ في قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ) ، فلو كان “ما تأخر”
مغفرة ذنوبهم لقال: هذه لكم.
وأيضًا فقد قال تعالى: (وَاَستَغْفِر لِذَنبِك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمناتِ)
، ففرَّقَ بين ما أضاف إليه وما يُضاف إلى المؤمنين والمؤمنات.
وأيضًا فإضافةُ ذنبِ غيره إليه أمرٌ لا يَصْلُح في حق آحادِ الناس، فكيف
في حقَه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ؟ حتى تُضَاف ذنوبُ الفُسَّاق من أمته
إليه.
ويُجعلَ ما جعلوه من الكبائر
– كالزنا والسرقة وشرب الخمر – ذَنْبًا له – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ،
والله يقول في كتابه: (وَلَا تزِرُ وَازِرَةٌ وزرَ أخُرَى)
ويقول في كتابه: (وَمَن يَعمَل
مِنَ الصّالحاَتِ وَهُوَ مُؤمِن فَلَا يَخَافُ ظُلما ولَا هَضمًا (112) )
قالوا : الظلم أن تُحْمَل عليه
سيئات غيرِه، والهَضْم أن يُنْقَصَ هو من حسناتِه، وهو أفضلُ من عَمِلَ من الصالحات
وهو مؤمن، فكيف تُحْمَلُ عليه سيئاتُ غيرِه وتُضَافُ إليه؟
وأيُ فرقٍ بين ذنبِ آدمَ وذنب
نوح والخليل وكلُّهم آباؤه؟
وأيُّ فرق بين ذنب الإنسان وذنب
غيرِه حتى يُضاف إليه هذا دونَ هذا؟
والله يقول : (أَم لَم يُنبّأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى
(37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) ) والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
يقول لرجل معه ابنه: “لا يَجْنِي عليك ولا تَجْنِي عليه” .
وأيضًا فقد قال الله في غيرِ موضع في القرآن إنه ليس عليه إلاّ البلاغُ
المبين، وقال: (فَإِن تَوَلواْ فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حمُلَ وَعَلَيكم مَّا حُمِّلتُم)
.
فإذا كان على أمتِه ما حُمِّلُوا
وهو ليس عليه إلا البلاغ المبين كيف تكونُ ذنوبُ أمته ذنوبَه؟
ومثل هذا القول لا يخفى فسادُه على من له أدنى تدبُّرٍ ، وإن كان قالَه
طوائفُ من المصنِّفين في العصمة، حتى يَرَى ذلك بعضُ مَن له في السنة والفقه والحديث
قَدَمٌ .
لكن الغُلوَّ أوجبَ اتباعَ الجهال
الضُلاَّل، فإنّ مثلَ هذه التفاسير إنما يَصْدُر في الابتداء عن أهل التحريف لكتاب
الله: إما من الزنادقة المنافقين، وإمّا من المبتدعة الضالّين.
وأولُ من دخلَ في الغُلوّ من أهل الأهواء هم الرافضة، فإنهم لما ادَّعَوا
في علي وغيرِه أنهم معصومون حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبِتوا ذلك للأنبياء بطريقِ الأولى
والأحْرى، ولما نزَهُوا عليًّا ومن هو دون علي من أن يكون له ذنبٌ يُسْتَغفَر منه كان
تنزيهُهم للرسلِ أولى وأَحْرى”.انتهى
ثم تكلم بكلام فقال بعده :
” وهذا كلُه من شُعَب النصرانية الذين وَصفَهم الله بالغلو في القرآن،
وذمَّهم عليه ونهَاهم فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ
إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لله وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ”
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) ) الآية، وقال تعالى: (يأهلَ
اَلكتاب لَا تَغلُواْ في دِينكم غير الحق و َلَا تَتبِعُوَاْ أَهواء قوم قد ضَلواْ
مِن قَبلُ وَأَضلُواْ كثيرا وَضَلُواْ عَن سَواء السَّبِيلِ (77) ) .
وقد ثبت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال:
“لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد
الله ورسوله”
حتى قال الشيخ في ( 4/40) :
” وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ
على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها.
ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعضُ
الصغائرِ مع التوبة منها أو لا يَقَعُ بحالٍ؟
فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث:
لا يَقَع منهم الصغيرةُ بحالٍ ، وزادت الشيعةُ حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غيرُ
خطأٍ .
وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث
من أصحابِ الأشعري وغيرهم فلم يَمنَعوا الوقوعَ إذا كانَ مع التوبة، كما دَلتْ عليه
نصوصُ الكتابِ والسنة، فإن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهرين.
وإذا ابْتَلَى بعضَ الأكابر بما
يَتُوب منه فذاك لكمالِ النهاية، لا لنقصِ البدايةِ.
كما قال بعضُهم: لو لم يكن التوبةُ
أحبَّ الأشياءِ إليه لما ابتلَى بالذنب أكرمَ الخلق عليه.
وفي الأثر : “إنّ العبد لَيَعْمَل السيئةَ فيدخَلُ بها الجنةَ، وإنّ
العبدَ لَيعملُ الحسنة فيدخلُ بها النارَ”، يعني أن السيئة يذكرُها ويتوبُ منها
فيُدْخِلُه ذلك الجنةَ، والحسنةُ يُعْجَبُ بها ويَسْتكبرُ فيُدخِلُه ذلك النارَ.
وأيضًا فالحسنات والسيئات تَتنوَّعُ بحسبِ المقامات، كما يقال: “حسنات
الأبرار سيئاتُ المقرَّبِين”، فمن فَهِمَ ما تَمحُوه التوبةُ وتَرفَعُ صاحبَها
إليه من الدرجات وما يَتفاوتُ الناسُ فيه من الحسنات والسيئات زالتْ عنه الشبهةُ في
هذا الباب، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيهما من الهدى والصواب.
فإنّ الغُلاةَ يتوهمون أن الذنبَ إذا صدرَ من العبد كان نقصًا في حقّه
لا يَنْجبرُ، حتى يجعلوا من فضلِ بعضِ الناس أنه لم يَسجدْ لصَنَم قطُّ. وهذا جهلٌ
منهم.
فإن المهاجرين والأنصار والذين
هم أفضل هذه الأمة هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِدَ على الإسلام، وإن
كانوا في أولِ الأمر كانوا كُفارًا يعبدون الأصنام.
بل المنتقلُ من الضلال إلى الهدى
ومن السيئات إلى الحسنات يُضاعَفُ له الثوابُ، كما قال تعالى: (إِلًا مَن تَابَ وَآمَن
وَعَمِلَ عملا صالِحًا فَأُوْلَئك يبَدِّلُ الله سيئاتِهِم حَسَنَات وَكاَنَ اللهُ
غَفُورا رَّحِيمًا (70) ) .
وقد ثبت في الصحيح أن الله يومَ القيامة يَظهر لعبدِه فيقول: “إني
قد أبدلتك مكانَ كل سيئةٍ حسنةً”، فحينئذٍ يَطلبُ كبائرَ ذُنوبِه.
وقد ثبت في الصحاح من غير وجهٍ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
– أنه أخبر أن الله أشدُ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ راحلتَه بأرضٍ دَوِّيَّةٍ
مَهلَكةٍ عليها طعامُه وشرابُه، فطلبَها فلم يجدْها، فنامَ تحت شجرةٍ يَنتظِرُ الموتَ،
فلما استفاقَ إذا بدابَّتِه عليها طعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فَرَحًا بتوبة عبدِه
مِن هذا براحلتِه.
وهذا أمرٌ عظيمٌ إلى الغاية. فإذا كانت التوبةُ بهذه المنزلةِ كيف لا يكون
صاحبُها مَعظَّمًا عند اللهِ؟
وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السماوات والأرض والجِبَالِ فَأَبَين أَن يحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ
مِنهَا وَحَملَها الإنسانُ إِنَّه كانَ ظَلُوما جَهُولا (72) لِيَعُذبَ اللهُ اَلمُنافِقِينَ
وَالمُناَفِقات وَالمشركين والمشركات ويتوب الله عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنات
وكَاَنَ الله غَفُورا رَّحيِما )
فوصفَ الإنسانَ بالجهل والظلمِ،
وجعلَ الفرقَ بين المؤمن والكافر والمنافق أن يتوبَ الله عليه، إذْ لم يكن له بُدٌّ
من الجهل والظلم. ولهذا جاء في الحديث : “كل ابنِ آدمَ خَطَّاء ، وخيرُ الخطَّائين
التوَّابُون”.
واعلم أن كثيرًا من الناس يَسبقُ إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقةُ
ونحوُ ذلك.
فيَسْتَعظمُ أن كريمًا يفَعل ذلك،
ولا يعلم أن أكثر عُقَلاء بني آدم لا يَسرِقَون بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم،
فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يَرْضَون أن يفعلوا مثلَ هذه الأعمال.
ولما بايعَ النبي – صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هندًا بنتَ عُتبةَ بن ربيعة أمَّ معاوية بيعةَ النساء على أن
لا يَسرقن ولا يزنين، قالت: أوَ تَزني الحُرَّةُ؟
فما كانوا في الجاهلية يعرفون
الزنا إلاّ للإماء. ولهذا قولهم “حُرَّة” تُرادُ به العفيفة، لأن الحرائرَ
كن عَفائِفَ.
وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يَعرفُه، ولم يكن هذا يُعرَفُ في العرب
قطُ.
ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العُلُوِّ في الأرض والفخر
والخُيَلاَء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين هم متعفِّفُون عن الفواحش.
وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإنّ الإخلاص لله والتوكل على الله
والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر على حكم الله والتسليم لأمر الله,
كل هذا من الواجبات
وكذلك الجهاد في سبيل الله والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات ، وتحقيق ما يجب من المعارف
والأعمال يطول تفصيلُه في هذا السؤال، حتى يفطن هذا ثم يفتح له الباب”.انتهى
أقول : فإذا كانت أدلة الكتاب والسنة الإجماع قد فصلت في المسألة فما حاجتنا
إلى النقل عن المتكلمين ، إذ لو لم يكن في المسألة نصوص لكان هجر كلام المتكلمين أولى
فكيف مع تلك الأبحاث النفيسة لشيخ الإسلام ، وليت الأخ لما نقل ، نقل عن فضلاء المتكلمين
بل تجده نقل عن الأرموي والرازي والآمدي وهم من أشد المتكلمين انحرافاً.
وقال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كما في مجموعة الرسائل والمسائل
النجدية (1/ 205) :
” الوجه الثاني : أن الذي عليه المحققون من العلماء من الحنابلة والشافعية
والمالكية والحنفية أن الأنبياء معصومون من الكبائر ، وأما الصغائر فقد تقع منهم ولكن
لا يقرون عليها بل يتوبون منها ويحصل لهم بالتوبة أعظم مما كان قبل ذلك”.
إلى أن قال :” فتبين مما ذكرنا وهم السائل وخطؤه رحمه
الله في نقل الإجماع على أنهم معصومون من الكبائر والصغائر ولعله غره كلام بعض المتأخرين
الذين يقولون بذلك أو يقلدون من يقوله من أئمة الكلام الذين لا يحققون مذهب أهل السنة
والجماعة ولا يميزون بين الأقوال الصحيحة والضعيفة والباطلة
كيف والقرآن محشو من الدلائل وقوع الذنب منهم كقوله تعالى ( وعصى آدم به
فغوى ) ، وقوله عن موسى عليه السلام ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) ، وقول يونس عليه
السلام ( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )، وقول نوح عليه السلام (
وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) ، وقوله عن آدم عليه السلام ( ربنا ظلمنا أنفسنا
وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ، وقول إبراهيم عليه السلام والذي أطمع
أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) وقوله عن داود ( فاستغفر ربه ) الآية ، وقوله ( ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) الآية ، وكذلك ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلن كان يدعو يقول ( يا رب اغفر لي ذنبي كله دِقَّهُ ، وَجِلَّهُ
، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ) وقوله (اللَّهُمَّ اغْفِرْ [لِي
خَطِيئَتِي ]وَجَهْلِي ، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي
، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي ، وَخَطَئِي وَعَمْدِي ، وَكُلُّ ذَلِكَ
عِنْدِي) ، وأشباه ذلك كثيرة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم “.
أقول : وإنني لأخشى على من قرأ حاشية الداني آل الزهوي أن يغتر بهنبثة
المتكلمين كما اغتر ذلك السائل ، والمتكلمون لو رجحوا القول الصواب فإنهم يميعون المسألة
، ولا يرجحونها بأدلة الكتاب والسنة.
والعجيب من الأخ الداني أنه لم يحل إلى شيء من كتب شيخ الإسلام للتوسع
في المسألة ، مع أنه حررها في العديد من كتبه ، وعزى إلى مصادر كلها أشعرية ! .
وهو الذي عرف عن نفسه في ص9 بقوله
(أبو عبد الله العاملي السلفي)، فهل يليق هذا الصنيع بلقب (السلفي) ، وفقك الله وغفر
لك .
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم