التنبيه على أثر ينسبه الجهمية لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه –

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

هذا الأثر الذي ينسبه الجهمية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه

أراد رجلٌ أن يحاججَ الإمامَ عليًّا : فوقفَ وقال: «يا عليّ! إني سائلُك..
فقال الإمام: سلْ تفقهًا ولا تسأل تعنُّتًا. فقالَ الرجلُ: أنت حَمَلْتني على ذلك ثم
قال: هل رأيتَ ربَّك يا عليّ؟ قال: ما كنتُ أعبد ربًّا لم أرَه! فقال الرجلُ: كيف رأيته؟
قال: لم تَرَهُ العيونُ بمشاهدةِ العيانِ، ولكن رأتْه القلوبُ بحقيقةِ الإيمانِ، ربي
واحدٌ لا شريكَ له، أحدٌ لا ثانيَ له، فردٌ لا مِثلَ له، لا يحويه مكانٌ، ولا يداولُه
زمانٌ، لا يُدْرَكُ بالحواسِّ، ولا يُقَاسُ بالقِيَاسِ».

قوله : ( لا يحويه مكان ولا يداوله زمان لا يدرك بالحواس ) هو كلام الجهمية
وما أطلقه أحد من السلف ، وهذه السلوب ليست مدحاً

ومع الأسف هذا الأثر أورده أحمد بن عثمان المزيد في كتابه تعظيم الله ص48

وقد سئل عبد العزيز ابن باز في تعليقاته على العقيدة الواسطية ص29
من التفريغ : هناك من إذا سئل عن الله يقول : لا يوصف بزمان ولا مكان ؟

فأجاب : أخطأ في الزمان أما المكان ثابت ، أما الزمان فلم يزل موجوداً
سبحانه وتعالى ( هو الأول والآخر ) لم يزل موجوداً أبداً ما يقال أنه في زمن معدوماً
ثم وجد ، لكن المكان فوق العرش أخبر عن نفسه ( الرحمن على العرش استوى )

قال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (1/191) :” وأما المكان: ففيه
نزاع وتفصيل. وفي الصحيحين: إثبات لفظ المكان”

واعلم رحمك الله أن لفظ المكان أثبته عدد كبير من أئمة أهل السنة ، ولا
أعرف عن إمام في القرون الفاضلة أنه قال ( بأن الله ليس له مكان )

وقد صرح بهذا شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية حيث قال
(2/45) :” ولا يقدر احد ان ينقل عن احد من سلف الامة وائمتها في القرون الثلاثة
حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا شيئا من عبارات النافية ان الله ليس في السماء والله
ليس فوق العرش ولا انه لا داخل العالم ولا خارجه ولا ان جميع الامكنة بالنسبة اليه
سواء ولا انه في كل مكان أو أنه ليس في مكان او انه لا تجوز الاشارة الحسية اليه ولا
نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة”

وقوله ( أو أنه ليس في مكان ) سقطت من طبعة ابن قاسم وهي موجودة في الطبعة
الجديدة

وممن أثبت لفظ المكان التابعي الجليل محمد بن كعب القرظي أمام عمر بن عبد
العزيز وأقره

قال ابن وهب في تفسيره 187 – قال: وحدثني حرملة بن عمران، عن سليمان بن
حميد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل
الجنة والنار أقبل الله في ظللٍ من الغمام والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة في
أول درجة فيردون عليه السلام، قال القرظي: وهذا في القرآن {سلامٌ قولا من ربٍ رحيمٍ}،
فيقول: سلوني، فيقولون: ماذا نسألك أي رب، قال: بلى سلوني، قالوا: نسألك أي رب رضاك،
قال: رضائي أدخلكم دار كرامتي، قالوا: يا رب، وما الذي نسألك فوعزتك وجلالك وارتفاع
مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لا ينقصنا
من ذلك شيئا؛ قال: إن لدي مزيدا؛ قال: فيفعل الله ذلك بهم في درجتهم حتى يستوي في مجلسه؛
قال: ثم تأتيهم التحف من الله تحمله إليهم الملائكة، قال: وليس في الآخرة ليل ولا نصف
نهارٍ، إنما هو بكرة وعشيا، وذلك في القرآن، في آل فرعون: {النار يعرضون عليها غدوا
وعشيا}، وكذلك قال لأهل الجنة: {لهم زرقهم فيها بكرة وعشيا}، قال: وقال: والله، الذي
لا إله إلا هو، لو أن امرأة من حور العين أطلعت سوارها لأطفأ نور سوارها الشمس والقمر،
فكيف المسورة وإن خلق الله شيئاً يلبسه إلا عليه مثلما عليها من ثياب أو حلي.

الشاهد قوله رحمه الله :” وما الذي نسألك فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك”

والسند رجاله ثقات إلا سليمان بن حميد المزني وثقه ابن حبان

قال الذهبي في تاريخ الإسلام :” سليمان بن حميد المزني. عن أبيه عن
أبي هريرة وعن محمد بن كعب القظي وعامر بن سعد.

وعنه الليث بن سعد وضمام بن إسماعيل وجماعة.

مات بمصر سنة خمس وعشرين ومائة”

فرواية جماعة من الثقات عنه ، مع توثيق ابن حبان يجعل خبره مقبولاً في
خبر مقطوع

وممن أثبت لفظ المكان الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب مستدلا بحديث
الجارية حيث قال في الرد على الجهمية ص25 :” وفي قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم : « أين الله ؟ » تكذيب لقول من يقول : هو في كل مكان ، لا يوصف ب « أين » ، لأن
شيئا لا يخلو منه مكان يستحيل أن يقال : « أين هو ؟ » ، ولا يقال : « أين » إلا لمن
هو في مكان يخلو منه مكان “

وممن أثبت هذا اللفظ حماد بن زيد الإمام الثقة الثبت

قال شيخ الإسلام في شرح حديث النزول ص40 :” قال الخلال في [ كتاب
السنة ] : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، ثنا أحمد بن محمد المقدمي، ثنا سليمان بن حرب،
قال : سأل بشر بن السُّرِّي حماد بن زيد فقال : يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء :
“ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ” يتحول من مكان إلى مكان ؟ فسكت حماد بن زيد
, ثم قال : هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء . ورواه ابن بطة في كتاب [ الإبانة ]
فقال : حدثني أبو القاسم حفص بن عمر الأردبيلي، حدثنا أبو حاتم الرازي , حدثنا سليمان
بن حرب، قال : سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال : يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء
“ينزل اللّه إلى سماء الدنيا ” أيتحول من مكان إلى مكان ؟ فسكت حماد بن زيد
, ثم قال : هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء “

وهذا الإسناد إلى حماد صحيح ولم ينكر عليه أحدٌ من السلف هذا الإطلاق

وكذلك الفضيل بن عياض

قال البخاري في خلق أفعال العباد 61- وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ
: إِذَا قَالَ لَكَ جَهْمِيٌّ : أَنَا أَكْفُرُ بِرَبٍّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ ، فَقُلْ
: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

وأقر البخاري هذا الكلام

وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص83 :” ولو أن هؤلاء رجعوا
إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه لعلموا أن الله تعالى هو العلي
وهو الأعلى وهو بالمكان الرفيع وأن القلوب عند الذكر تسمو نحوه والأيدي ترفع بالدعاء
إليه ومن العلو”

فتأمل قوله ( وهو بالمكان الرفيع)

وقال حرب الكرماني في عقيدته التي نقل عليها إجماع أهل الحديث في عصره
:” والجهمية أعداء الله: وهم الذين يزعمون أن القرآن مخلوق وأن الله لم يكلم موسى،
وأن الله لا يتكلم، ولا يرى، ولا يعرف لله مكان، وليس لله عرش، ولا كرسي وكلام كثير
أكره حكايته، وهم كفار زنادقة أعداء الله فاحذروهم”

وكذلك ممن أثبت هذا اللفظ ابن بطة حيث قال في الإبانة (6/141) :”
لكنا نقول : إن ربنا تعالى في أرفع الأماكن ، وأعلى عليين ، قد استوى على عرشه فوق
سماواته ، وعلمه محيط بجميع خلقه ، يعلم ما نأى كما يعلم ما دنا ، ويعلم ما بطن كما
يعلم ما ظهر كما وصف نفسه تعالى”

فتبين أن هذا اللفظ قال به جمع من الأئمة وعندهم مستندهم الأثري ، ولا
يعلم نفي ( المكان ) عن أحد من المتقدمين في القرون الثلاثة ، ومحل الاتفاق نفي المكان
المخلوق

قال شيخ الإسلام في الاستقامة (1/127) :” ثم المثبت لما جاءت به السنة
يرد عليه بمنع بعض هذه المقدمات والتفصيل فيها أو بعضها وبيان الحق في ذلك من الباطل
مثل أن يقال المكان يراد به ما يحيط بالشئ والله لا يحيط به مخلوق أو يراد به ما يفتقر
إليه الممكن والله لا يفتقر إلى شئ وقد يراد بالمكان ما يكون الشئ فوقه والله فوق عرشه
فوق سماواته فلا يسلم نفى المكان عنه بهذا التفسير

ونقول قد وردت الآثار الثابتة بإثبات لفظ المكان فلا يصح نفيه مطلقا

وأما الأثر المروي عن علي فهو محض كذب لا أصل له عنه وقد أخطأ  أحمد عثمان المزيد خطأ عظيماً في إيراده

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم