التفويض الجديد… والمفوضة الجدد

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

التفويض هو مذهب كلامي حصرت صدور أصحابه أن يؤمنوا بظواهر النصوص، ولم يريدوا أن يتحملوا تبعات التأويلات المتكلفة فقالوا: نتعامل مع النصوص كأنها لم تأتِ من الأساس مع تنزيه ربِّ العالمين عن ظاهرها، فانتهوا إلى نتيجة المحرِّفة المؤوِّلة المعطِّلة بأقل جهد، فبدلاً من أن يقول لك اليد القدرة، فتقول له السياق لا يحتمل وتستدل عليه فتُتعبه، يقول: أنا أفوض وأنزه الله عن ظاهر اليد، والقدرة أُثبتها من نص آخر، فالنتيجة هي هي ولكن بحيلة.

ولهذا لا تجد المفوض يُعمل تفويضه إلا مع النصوص التي لا تعجبه، فهو لا يفوض نصوص صفة العلم أو القدرة، بل يثبتها على وجه يليق بالله عز وجل.

ولا تجده يفوض أجنحة الملائكة ولا القلم ولا اللوح ولا الميزان ولا الحوض ولا ما في الجنة، فكلُّه يؤمن به على حقيقته، ويفهم القدر المشترك بينه وبين ما يعرف، دون تحديد كيفية بعينها.

هذا التفويض القديم، وأما التفويض الجديد: فهو مذهب عصري يفشو بين نخب من المثقفين وطلاب العلم وشريحة لا بأس بها من العوام، وهو تفويض مبني على استصغار المسائل العلمية المختلف فيها، وزعم أنها تعطِّل عما هو أهم، وأن الفائدة المرجوة هي الفائدة المسلكية فحسب، ويمكن أن تتحقق بأي عقيدة، عقيدة أهل السنة أو عقيدة أهل البدعة.

هو باختصار: لا اكتراثية عقدية، تشبه اللااكثراثية الدينية، ذلك المذهب الذي يقول صاحبه: لا يهمني إن كان الدين صحيحاً أم لا، المهم أن أعيش حياتي.

وهذا يقول: لا يهم أن تكون العقيدة الصحيحة في الله عقيدة الفرقة الفلانية أو الفرقة الفلانية، المهم الأخلاق أو المهم القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو المهم الوقوف ضد العدو المشترك.

هذا التفويض الجديد يستبطن اتهام علماء الفرق على مرِّ التاريخ بأنهم ضخموا خلافيات ضعيفة وسخيفة، وصار يكفر بعضهم بعضاً ويضلل بعضهم بعضاً بها.

ويستبطن التهوين من شأن عبادة (الإيمان بالغيب)، وقد سئل النبي ﷺ: أي العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله» ثم ذكر أعمالاً كالحج والجهاد.

والإيمان بالله له مراتب، فالإيمان الإجمالي المشترك يختلف عن الإيمان التفصيلي الصحيح في أثره.

الإيمان بالغيب واجب دائماً، والأثر المترتب عليه سلوكياً قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً، فالإيمان بالنزول واجب، والاستغفار بالأسحار مستحب بصلاة أو بغير صلاة.

الإيمان باستغفار الملائكة وبالميزان والحوض واجب، والتفاعل مع هذه الحقائق يتفاوت فيه أهل الإيمان تفاوتاً عظيماً.

وهذا التفويض الجديد يستبطن أن العقيدة الصحيحة أثرها على القلب والسلوك كأثر العقيدة الفاسدة، وأن خلافيات الأمة ما فصل فيها الوحي، وأن معرفة الله عز وجل الصحيحة ليست أسمى المطالب، وإنما المطلب الأسمى تحقيق مصالح دنيوية حاضرة أو خدمة كيان الأمة، وهذه كلها فوائد مطلوبة؛ ولكن الإيمان بالغيب نافع مطلقاً وليس مقصوداً لغيره، بل مقصود لذاته وفيه منافع تنعكس على غيره.

من الناس من يرى الدين وسيلة لإعمار الدنيا، لهذا فكرة إذهاب مجموعة من المكاسب الدنيوية لأجل الدين عنده فكرة همجية، وكثير ممن تأثر بهذا المذهب مال للتفويض الجديد، والواقع أن الدنيا طريق للآخرة.

وأن العقائد الباطلة تُذم وإن لم يكن أصحابها أصحاب مشروع سياسي مضاد أو نعقل لكلامهم أثراً سلبياً على السلوك (مع أن كل عقيدة باطلة تنقص الإيمان في القلب إن لم تنقضه، والقلب له أثره على غيره) فالسلف ذموا القدرية منكري العلم وكفروهم، وما عُقِل منهم ضرر على دنيا الناس.

وحين قام الحسن بن محمد بن الحنفية بصنع شيء كالتفويض الجديد، فقال بإرجاء أمر عثمان وعلي إلى الله لا يشهد عليهما بجنة ولا نار، ما صنع شيئاً وندم، لأن الناس كانوا فرقتين فصاروا ثلاثا، وما صنع شيئاً سوى أن سوَّى بين الحق والباطل وادَّعى الخفاء في محل ظهور ليجمع الناس، فباءت محاولته بالفشل.

كلام دعاة التفويض الجديد قد يلتقي مع كلام دعاة التفويض القديم وقد يتفارقان، والتفويض الجديد خطير، لأن كثيراً من الناس لا يعقل أثر الإيمان الصحيح بالصفات فيما خالف فيه المعطلة، وأن هذا باب يدخل في كل باب، حتى أنه ما انحرفت طائفة فيه إلا وأثَّر ذلك على بقية عقائدها وعلومها؛ ولكن الجهل اليوم فاشٍ وتعظيم القضايا الدنيوية، فهو السائد مع عقلية تزاحمية تفرض أنك إما أن تتكلم في الموضوع الفلاني أو الموضوع الفلاني، والحديث في شخصيات مع من تأثَّر بهذا المذهب غلط في ترتيب البحث، كمحاورة ملحد في تفاصيل تشريعية يبني على الاعتراض عليها على احتقاره للمصلحة الدينية.

وانظر موقف السلف من الواقفة لتدرك خطورة هذا التفويض الجديد، حتى إن الواقفة في زمن أحمد اتهموه بالخارجية لأنه يكفر المخالفين في الصفات، ولكل قوم وارث