التجوز في قبول رواية الضعفاء للآثار التي يروونها عن شيوخهم ولا تستنكر

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/101) : في ترجمة أبي عبيد القاسم
بن سلام :

” وكان يقصد إمامنا أحمد ويحكي عنه أشياء.

 منها ما رواه أبو بكر بن أبي الدنيا
قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام زرت أحمد بن حنبل فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني
وأجلسني في صدر مجلسه فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر
بيته أو مجلسه قال: نعم يقعد ويقعد من يريد

قال: فقلت: في نفسي خذ إليك أبا عبيد فائدة

ثم قلت: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم فقال:
لا تقل ذاك فإن لي إخوانا ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى
كل يوم

قال: قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد فلما أردت القيام قام معي قلت: لا تفعل
يا أبا عبد الله

قال: فقال: قال: الشعبي من تمام زيارة الزائر أن يمشى معه إلى باب الدار
ويؤخذ بركابه

قال: قلت: يا أبا عبد الله من عن الشعبي قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن
الشعبي .

قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة”

وجه الدلالة من هذا الخبر أن الإمام أحمد احتج بخبر مجالد عن الشعبي مع
أنه ضعيف ، ولكن لما كان الخبر مقطوعاً على الشعبي ومجالد يروي عنه مباشرة وليس في
المتن ما ينكر ، وعلى ضعفه كان مختصاً بالشعبي قبل الإمام أحمد خبره وعمل به

وقال صالح بن أحمد في كتابه سيرة الإمام أحمد ص127 :” وَاجْتمعت عَلَيْهِ
أوجاع الْحصْر وَغير ذَلِك وَلم يزل عقله ثَابتا وَهُوَ فِي خلال ذَلِك يَقُول كم الْيَوْم
فِي الشَّهْر فَأخْبرهُ وَكنت أَنَام بِاللَّيْلِ إِلَى جنبه فَإِذا أَرَادَ حَاجَة
حركني فأناوله وَقَالَ لي جئني بِالْكتاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث ابْن إِدْرِيس عَن لَيْث
عَن طَاوُوس أَنه كَانَ يكره الانين فَقَرَأته عَلَيْهِ فَلم يَئِن إِلَّا فِي اللَّيْلَة
الَّتِي توفّي فِيهَا”

والشاهد من هذا أن الإمام أحمد قبل رواية ليث بن أبي سليم عن طاوس مع أنه
ضعيف ولكن لما كان يروي عنه مباشرة وضعفه ليس شديداً وله اختصاص بطاوس وليس في المتن
ما ينكر قبل أحمد روايته

وأنا أكرر ( ما ينكر ) لأنني وجدت توهيم بعض الثقات لما رووا عن الأئمة
ما يستنكره تلاميذهم والمختصون بهم

قال ابن كثير في تفسيره (1/559) :” وقال الطحاوي: حكى لنا محمد بن
عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في
تحليله ولا تحريمه شيء. والقياس أنه حلال. وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب، عن أبي سعيد
الصيرفي، عن أبي العباس الأصم، سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، سمعت الشافعي يقول
… فذكر. قال أبو نصر الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: لقد كذب
-يعني ابن عبد الحكم -على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من
كتبه، والله أعلم”

وابن عبد الحكم ثقة ولكنه ليس من أصحاب الشافعي المختصين به ، فاستنكروا
عليه هذا الخبر مع وثاقته في الأصل

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (16/ 405) وهو يتكلم عما نقل عن
الإمام أحمد من التأويل :” وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِيمَا نَقَلَهُ
حَنْبَلٌ . فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ
أَحْمَد فِي مَنْعِهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا وَتَأْوِيلِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : إنَّ
هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ انْفَرَدَ بِهِ دُونَ الَّذِينَ ذَكَرُوا عَنْهُ الْمُنَاظَرَةَ
مِثْلَ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ والمروذي وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا
هَذَا وَحَنْبَلٌ يَنْفَرِدُ بِرِوَايَاتِ يُغَلِّطُهُ فِيهَا طَائِفَةٌ كَالْخَلَّالِ
وَصَاحِبِهِ . قَالَ أَبُو إسْحَاقَ ابْنُ شاقلا : هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ لَا
شَكَّ فِيهِ . وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ تَأَوَّلَ “
يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ” أَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْرُهُ . لَكِنَّ هَذَا
مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبٍ كَاتِبِهِ وَهُوَ كَذَّابٌ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَتْ
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَكِنَّ الْإِسْنَادَ مَجْهُولٌ “

ثم ذكر أقوالاً في توجيه هذا ، والشاهد مسلك هؤلاء الذين غلطوا حنبلاً
لما روى ما يخالف المشهور عن الإمام

قال ابن القيم في كتاب الفروسية ص284 :” وكذلك أصحاب أحمد إذا انفرد
راو عنه برواية تكلموا فيها وقالوا تفرد بها فلان ولا يكادون يجعلونها رواية إلا على
إغماض ولا يجعلونها معارضة لرواية الأكثرين عنه وهذا موجود في كتبهم يقولون انفرد بهذه
الرواية أبو طالب أو فلان لم يروها غيره

فإذا جاءت الرواية عنه عن غير صالح وعبد الله وحنبل وأبي طالب والميموني
والكوسج وابن هانئ والمروزي والأثرم وابن القاسم ومحمد بن مشيش ومثنى بن جامع وأحمد
بن أصرم وبشر بن موسى وأمثالهم من أعيان أصحابه استغربوها جدا ولو كان الناقل لها إماما
ثبتا ولكنهم أعلى توقيا في نقل مذهبه وقبول رواية من روى عنه من الحفاظ الثقات ولا
يتقيدون في ضبط مذهبه بناقل معين كما يفعل غيرهم من الطوائف بل إذا صحت لهم عنه رواية
حكوها عنه وإن عدوها شاذة إذا خالفت ما رواه أصحابه عودة إلى زيادة الثقة فإذا كان
هذا في نقل مذاهب العلماء مع أنه يجوز بل يقع منهم الفتوى بالقول ثم يفتون بغيره لتغير
اجتهادهم وليس في رواية من انفرد عنهم بما رواه ما يوجب غلطه إذ قد يوجد عنهم اختلاف
الجواب في كثير من المسائل فكيف بأئمة الحديث مع رسول الله الذي لا يتناقض ولا يختلف
كلامه “

وقال الخلال في السنة 626- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ ,
قَالَ : ذَكَرْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثَ سَفِينَةَ , فَصَحَّحَهُ , وَقَالَ
: قُلْتُ : إِنَّهُمْ يَطْعَنُونَ فِي سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ , فَقَالَ : سَعِيدُ
بْنُ جُمْهَانَ ثِقَةٌ , رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ , مِنْهُمْ حَمَّادٌ , وَحَشْرَجٌ
, وَالْعَوَّامُ , وَغَيْرُ وَاحِدٍ , قُلْتُ لأَبى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ
: ابْنُ صَالِحٍ حَكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ ذَكَرَ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ
أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ , فَغَضِبَ وَقَالَ : بَاطِلٌ , مَا
سَمِعْتُ يَحْيَى يَتَكَلَّمُ فِيهِ

الشاهد أن الإمام أحمد حكم على روايته بالبطلان مع إنه إنما يحكي عن القطان
وهو متشدد جرح بعض الرواة ولكن لما كان أحمد من أخبر الناس بيحيى بن سعيد القطان علم
بطلان الخبر

فما ذكرناه في البداية ليس على إطلاقه بل لا بد من النظر في المتن ومقارنته
بكلام المتكلم الآخر لئلا نصحح عنهم المناكير

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم