قال سليمان العلوان في شرح العقيدة الواسطية :
حكى الإمام ابن حزم في الإحكام، وابن تيمية في الفتاوى، وابن كثير
في البداية والنهاية: هؤلاء يحكون
الإجماع على أن من غير دين الله وحكم بغير ما أنزل الله، فهو مرتد
عن الدين؛ لنفترض أن هذا القول غلط، فلا يُنْسَبُ من قال بهذا القول إلى الخوارج.
العجيب في هذا الواقع الآن أن من قال بظاهر الآية: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ليسوا هم الخوارج؛ لم
يقل بذلك الخوارج، ولم تكن بدعة الخوارج أنهم يكفرون من حكم بغير ما أنزل الله؛
ومن قال ذلك؟ !
ولكن كانوا يُكفِّرون الصحابة؛ يُكفِّرون عليَّا، يكفرون عثمان،
يكفرون كافة الصحابة –رضي الله عنهم-؛ هذه بدعة الخوارج، ويقولون لا حُكم إلا لله،
مع أنه لم يُعرف عن أحد من الصحابة أنه حكم بغير ما أنزل الله؛ حتى يقال إن
الخوارج يُنزِّلون هذه الآية عليهم؛ فهم أخطؤوا في الاستدلال بها، ولم يكونوا
يُنزِّلون الآية على وجهٍ مشروع ثم أجمع الصحابة على خلافه.
وأما ما أثر عن ابن عباس: (كفر دون كفر) فهذا أثر منكر جاء من
رواية هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس؛ وإن كان ابن حجير ضعيف الحديث؛ ضعفه
الإمام أحمد ويحيى بن معين والعُقيلي وغير هؤلاء من الأكابر، وفي نفس الوقت جاء عن
ابن عباس ما يخالفه؛ جاء عنه بسند كالشمس: قال عبد الرزاق: حدثنا معمر، حدثنا عبد
الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: [ هي به كُفْرٌ ]، هذا سند كالشمس، وروى
ابن جرير بلفظ: [ هي كفر]. بمعنى أن الآية على إطلاقها.انتهى كلامه
فهنا سليمان العلوان يأخذ بالآية على إطلاقها وينكر بأن القول بأخذ
بها على إطلاقها هو قول الخوارج ويحصر خطأ الخوارج في تكفيرهم لعثمان وعلي يعني
فيمن نزلت عليه الآية لا في الاستدلال نفسه وبهذا يكذب النبي صلى الله عليه وسلم
أن الذي أخبر باستمرار خروج الخوارج
ويدعي أنه لا أحد من أهل العلم قال بأن الأخذ بهذه الآية على
الإطلاق هم الخوارج !
قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره [2/ 42]: اعلم أن الخوارج
يستدلون بهذه الآية ويقولون من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر وأهل السنة لا
يكفرون بترك الحكم. اهـ
قال ابن عبد البر في التمهيد [17/ 16]: وقد ضلت جماعة من أهل البدع
من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب واحتجوا بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز
وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون}.اهـ
وقال الجصاص في أحكام القرآن [4/ 92]: وقد تأولت الخوارج هذه
الآية على تكفير من ترك الحكم بغير ما أنزل الله من غير جحودٍ لها. اهـ
قال الشاطبي في الإعتصام [2/ 183 – 184] والآجري في الشريعة [1/ 31] واللفظ له: مما يتبع
الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ويقرؤون معها {ثم الذين كفروا بربهم
يعدلون} فإذا رأوا الإمام حكم بغير الحق قالوا كفر. اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة [5/ 131]: {فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم …. } وهذه الآية مما يحتج به الخوارج على تكفير
الولاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. اهـ
وهذا كله ينطبق على العلوان
وأما كلامه على أثر ابن عباس فليس الأثر منكراً بل قوله (
هي به كفر ) بمعنى ( كفر دون كفر )
فلفظة [هي به كفر] من ألفاظ الكفر الأصغر لأربعة براهين:
البرهان الأول :
قول النبي صلى الله عليه وسلم [اثنتان في الناس هما
بهما كفر: النياحة والطعن في الأنساب].
البرهان الثاني:
قول ابن عباس في الرواية الثابتة: [وليس كمن كفر بالله
وملائكته وكتبه ورسله]
البرهان الثالث:
إيراد ابن بطة لأثر ابن عباس هذا في [الإبانة 2/ 723]:
تحت باب: ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من
الملّة.
وذكر ضمن هذا الباب: الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة
والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة , فابن بطة أعلم بألفاظ السلف من المعاصر .
البرهان الرابع:
قال محمد بن نصر المروزي – رحمه الله – في [تعظيم قدر الصلاة2/ 520] على لسان جماعة من أهل
الحديث: ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً دون أصله، لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما
ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام، من ذلك قول
ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. اهـ
ثم أسند المروزي أثر ابن عباس بلفظ: [هي به كفر] فتأمل الفرق بين فقه
السلف وفقه الخلف اليوم
– إن صحت تسميته بالفقه -.
وبأثر ابن عباس كان يفتي الإمام أحمد وعامة أهل السنة
قال إسماعيل بن سعد في [سؤالات ابن هاني 2/ 192]:
سألت أحمد: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. قلت: فما هذا الكفر؟
قال: كفر لا يخرج من الملة. اهـ
ولما سأله أبو داود السجستاني في سؤالاته [ص 114] عن هذه الآية؛ أجابه
بقول طاووس وعطاء وسيأتي ذكرهما.
وذكر شيخ الإسلام بن تيمية في [مجموع الفتاوى 7/ 254] وتلميذه ابن القيم في [حكم تارك الصلاة ص 59 –
60]: أن الإمام أحمد -رحمه الله- سئل عن الكفر المذكور في آية الحكم.
فقال: كفر لا ينقل عن الملة؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر،
حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. اهـ
وأما رواية ( هي كفر ) فغلط من العلوان _ ولا أدري إن كان متعمداً أم خطأ _
بل قد دلت السنة الصحيحة على أن مجرد الحكم بغير ما أنزل الله ليس
كفراً أكبر
1 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: [عليك السّمعُ والطّاعةُ في عُسْرِك، ويُسرِك، ومَنشطك ومَكرهك،
وأثرةٍ عليكَ] رواه مسلم.
قلت: ووجه الشاهد قوله: [وأثرة عليك] ويعني الاستئثار بأمور
الدنيا عنك , ولا يخفى بأن هذا الاستئثار من الوالي بالدنيا عن الرعية ليس من
الحكم بما أنزل الله ..
2 – عن حذيفة رضي الله عنه يرفعه: [يكون بعدي أئمة لا
يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان
إنس , قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمعُ وتطيع للأمير وإن
ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع] رواه مسلم.
قلت: قوله: [لا يهتدون بهداي] صريحٌ في أنهم لا
يحكمون الشريعة وهذا يشمل المكوس وأضرابها .
3 – سأل سلمةُ بنُ يزيد الجُعفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال [يا نبي الله أرأيتَ إن
قامت علينا أمراءُ يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟
فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة
فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسمعوا وأطيعوا، فإنما
عليهم ما حُمِّلُوا وعليكم ما حملتم] رواه مسلم.
قلت: لا شك بأن منع الناس حقوقهم ليس من الحكم بما أنزل الله، .
4 – عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
لتنقضن عرى الإسلام عروة , عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس
بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم و آخرهن الصلاة.[رواه أحمد وابن حبان ]
قلت: وجه الدلالة من الحديث أن انتقاض عروة [الحكم] لم تكن انتقاضاً
للإسلام كله بل بقي الإسلام يذهب شيئاً فشيئاً.
ولا يعني التهوين من شأن جريمة الحكم بغير ما أنزل الله خصوصاً ما
كان منها تحكيماً للقوانين الوضعية فهذا أمر خطيرٌ جداً وقد ورد في الحديث : ( وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ
بِكِتَابِ اللهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، إِلاَّ جَعَلَ
اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) وهذا نراه عياناً اليوم والله المستعان
ومن عجائب العلوان أنه عندما سئل
: (كما تكونوا يولى عليكم ) هل هو حديث؟
الإجابة: هو أثر (كما تكونوا يولى عليكم) أثر، ولكنه باطل.( وهذا في شرحه على
الواسطية )
أقول : والأثر ليس باطلاً بل معناه صحيح تماماً _ ولكنه عنده نفس ثوري جامح على عادة الحركيين الحالمين الذين لا يريدون أن يلقوا بأي لائمة على الشعوب _
قال الطرطوشي في سراج الملوك ص94 :
لم أزل أسمع الناس يقولون: أعمالكم عمالكم، كما تكونوا يولى عليكم،
إلى أن ظفرت بهذا المعنى في القرآن؛ قال الله تعالى: { وكذلك نولي بعض
الظالمين بعضاً }.
وكان يقال: ما أنكرت من زمانك فإنما أفسده عليك عملك.
وقال عبد الملك بن مروان: ما أنصفتمونا يا معشر الرعية، تريدون منا
سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما، نسأل الله أن يعين كل
على كل.
وقال قتادة: قالت بنو إسرائيل: إلهنا أنت في السماء ونحن في الأرض
فكيف نعرف رضاك من سخطك؟
فأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائهم: إذا استعملت عليكم خياركم فقد
رضيت عنكم، وإذا استعملت عليكم شراركم فقد سخطت عليكم.انتهى
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/ 529) :
وكان الحسن البصري يقول إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله
بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول ولقد أخذناهم بالعذاب
فما استكانوا لربهم وما يتضرعون.انتهى
وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/253) :
وليس في الحكمة الالهية أن يولى على الاشرار الفجار إلا من يكون من
جنسهم ولما كان الصدر الاول خيار القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك فلما شابوا شابت
لهم الولاة فحكمه الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الازمان مثل معاوية وعمر بن
عبدالعزيز فضلا عن مثل ابي بكر وعمر بل ولاتنا على قدرنا وولاة من قبلنا على
قدرهم.انتهى
تنبيه : إذا صدر من الحاكم ما يدل على استهانة بالشريعة كتسميته إياها تطرفاً أو تفضيله للديمقراطية عليها ، أو انتسب في حزب شيوعي أو علماني فهذا وقع في الكفر وليس داخلاً في البحث السابق والحكم بغير ما أنزل الله من أعظم الشؤم وسبب لسخط الله وحصول الفرقة فليس ما سبق تهوين من شأنه
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم