البرهان على أن القبورية هم ورثة الجهمية (شبهة أعوذ بدانيال).
اشتد نكير السلف على الجهمية القائلين بخلق القرآن (أي إنكار أن الله عز وجل يتكلم بكلام قائم بذاته)، وكانوا يستدلون عليهم باستدلالات عديدة من أشهرها الاستدلال بحديث: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق».
قال البغوي في شرح السنة: “واستعاذ بصفاته، كما جاء في دعاء المشتكي” قل: أعوذ بعزة الله، وقدرته من شر ما أجد”.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بمخلوق من مخلوق.
وبلغني عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه كان يستدل بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» على أن القرآن غير مخلوق، لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص”.
وقال نحواً من كلامه هذا الأشعري؛ والباقلاني؛ والبيهقي؛ والخطابي؛ والثعلبي؛ وابن عبد البر؛ وابن تيمية وابن رجب وغيرهم كثير، فهذا الكلام حاضر في كلام أهل الحديث والأشعرية أيضاً.
وتجده في المتون الحنبلية المذهبية، كالفروع والإنصاف وغيرها.
وقال الخلال في السنة نقلاً عن المروذي في رسالة عرضها على الإمام أحمد وأقرها: “1922- وحدثونا عن جرير بن حازم، عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يمسي: اعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق). وذكر الحديث. ولا يجوز أن يقال: اعيذك بالنبي أو بالجبال أو بالأنبياء أو باالملائكة أو بالعرش أو بالأرض أو بشئ مما خلق الله. لا يتعوذ إلا بالله أو بكلماته. وقوله: أوجبوا على من حلف بالقرآن بكل آية يمين.
وقال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: “قد أمليت هذا الباب بتمامه في كتاب الطب والرقى قال أبو بكر: أفليس العلم محيطا يا ذوي الحجا؟ أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه؟ هل سمعتم عالما يجيز، أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟ أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله، هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه”.
فماذا يفعل القبوريون أمام هذه البينات؟
يأتون برواية أن علياً كان يرى الاستعاذة بنبي الله دانيال من الأسد، ثم يتبعونها بالتشنيع على السلفيين قائلين لهم هل تكفرون الراوي؟ وكان ينبغي أن يشنعوا على كل أئمة أهل الحديث فيقولون لهم (هل رواة الخبر جهمية لأنهم يجوزون الاستعاذة بمخلوق).
وعلى العموم الرواية موضوعة مكذوبة، وفي ألفاظها اختلاف، ومن الناس من يروي أخبار الكذابين تعجباً.
قال ابن السني في عمل اليوم والليلة: “347- أخبرني إسماعيل بن إبراهيم الحلواني، حدثنا أبي، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد العزيز بن عمران، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم قال: “إذا كنت بواد تخاف فيها السباع، فقل: أعوذ بدانيال وبالجب من شر الأسد”.
إبراهيم بن المنذر الذي عليه مدار الرواية ورد أنه خلط في القرآن فهجره أحمد، وقد تكون روايته لهذا على هذا الوجه المستنكر من ضمن هذا التخليط.
عبد العزيز بن عمران ضعيف جداً.
و قال على بن الحسين بن حبان: “وجدت فى كتاب أبى بخط يده: قال أبو زكريا: ابن أبى ثابت الأعرج المدينى قد رأيته ها هنا ببغداد كان يشتم الناس و يطعن فى أحسابهم، ليس حديثه بشىء”.
و قال أحمد بن الحسن بن الفضل السكونى: “سمعت محمد بن يحيى النيسابورى يقول: على بدنة إن حدثت عن عبد العزيز بن عمران حديثا، و رأيته يضعفه جدا”.
و قال البخارى: “منكر الحديث، لا يكتب حديثه”.
وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة متروك أيضاً، ضعيف جداً في روايته عن داود.
وداود بن الحصين روايته عن عكرمة ضعيفة جداً، قال ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر.
ولو كان هذا الخبر مطروقاً أو محتملاً عند الأئمة لما احتجوا على الجهمية بما احتجوا به.
وقال الخرائطي في مكارم الأخلاق: “1043- حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي، حدثنا إبراهيم بن المنذر الجزامي، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم قال: “إذا كنت بواد، تخاف فيه السبع، فقل: أعوذ برب دانيال والجب من شر الأسد”.
هذه الرواية (أعوذ برب دانيال) تتفق مع اعتقاد أهل السنة ويبدو أنها الأصح على أن السند هو هو في الوهاء، وهنا تنبه الخرائطي لما في المتن من مشكلة.
قال شمس الدين السفيري الشافعي في شرحه على البخاري (وهو متأخر متوفي في القرن العاشر) : “فائدة: روى عن ابن السني في عمل اليوم والليلة من حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: «إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل: أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد».
قال الدميرى: لما ابتلى دانيال أولاً وآخراً بالسباع، جعل الله الاستعاذة به في ذلك تمنع الذي لا يستطاع”.
تأمل أنهم من شدة الجهل اعتمدوا هذه الرواية المنكرة سنداً ومتناً.
قال إسماعيل حقي المتوفى عام 1127 في روح البيان: “وكان احمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق، ويقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق، وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص، فالموصوف منه بالتمام غير مخلوق، وهو كلام الله تعالى، يقول الفقير جاءت الاستعاذة بمخلوق فى قول علي رضى الله عنه: إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل أعوذ بدانيال وبالجب من شر الأسد. وذلك أن دانيال لما ابتلى بالسباع كما ذكرناه عند قوله تعالى: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. جعل الله الاستعاذة به فى ذلك تمنع شر الذي لا يستطاع، كما فى حياة الحيوان، قال بعضهم هذا مقام من بقي له التفات إلى غير الله”.
فتأمل كيف تعقب أحمد -وعامة أئمة أهل الحديث- بتلك الرواية الواهية منتصراً لأسلافه من الجهمية.
وقال البخاري في خلق أفعال العباد، باب ما كان النبي يستعيذ بكلمات الله لا بكلام غيره: “وقال نعيم: «لا يستعاذ بالمخلوق، ولا بكلام العباد والجن والإنس، والملائكة وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق، وأن سواه مخلوق».
فهذا الخبر المنكر سنداً ومتناً، لم يرفع أحمد والبخاري وابن خزيمة وعامة العلماء به رأساً، لنكارة سنده ومتنه، والاضطراب فيه، لهذا حتى الجهمية ما قاولت العلماء به لعلمهم أن مثل هذا لا يستدل به.
والاستدلال بأن فلاناً وفلاناً أورده لا يفيد مع وفرة العلماء القائلين بنكارة هذا الصنيع.