الانحياز للنظير ودلالته على ضرورة الوحي
تقول أم المؤمنين عائشة : والنساء ينصر بعضهن بعضا . رواه البخاري ضمن حديث أطول
هذا اسمه الانحياز للنظير فينحاز المرء لمن كان من جنسه( من ذكورة أو أنوثة ) أو مرحلته العمرية( من شباب أو شيخوخة ) أو وضعه الاجتماعي ( من غنى أو فقر ) وغير ذلك من الاعتبارات
وهذا الانحياز ليس بالضرورة يكون ناشئا عن هوى أو تعصب وإنما قد يكون منشؤه أنه عالم بمتطلبات نظيره وظروفه لما بينهما من التشابه فيحدث له ذلك فهما أكثر من الطرف الآخر فينحاز له لشعوره به
ولهذا لو قدر أن ذكرا مسخ أنثى أو أنثى مسخت ذكرا ثم عادا لما كانا عليه لكان احتمال أن تتغير نظرته أو نظرتها للجنس الآخر احتمالا كبيرا لأنه عاش حاله وفهم غرائزه ومتطلباته فهما كاملا
ومن هذا الباب قول علي بن أبي طالب : كنت أرى السلطان يظلم الناس فإذا الناس يظلمون السلطان . رواه أبو حاتم في الزهد بسند قوي ( وليس معناه أنه لا يوجد سلطان يظلم الناس وإنما قصده أنه لم يكن يتصور أن يحصل العكس ) وكثير ممن كان ينتقد والديه وهو صغير بدأ يتحول تدريجيا إلى نسخة منهم كلما تقدم العمر أو على الأقل تخف حدة انتقاداته
فإذا فهم هذا علمت أنك لو أتيت بمجموعة من النساء الفقيرات غير المتزوجات وطلبت منهن أن يضعن منظومة قوانين فسيضعنها على صورة معينة تتناسب مع رؤيتهن للحياة من خلال ظروفهن فإذا غيرت صفة الأنوثة وجعلت مكانها الذكورة فأتيت بالذكور الفقراء العزاب فستخرج بمنظومة مختلفة وهكذا في كل مرة تغير فيها صفة من الصفات تخرج بمنظومة مختلفة وتتناقض مع الأخريات في أمور محورية
وكذلك لو جئت بثلاث مجموعات ، مجموعة لصوص ومجموعة من الناس الذين ليسوا لصوصا ولَم يتعرضوا للسرقة من قبل ومجموعة ثالثة لأناس كانوا ضحايا لجرائم سرقة وطلبت من كل فريق منهم أن يحكم على مدان بالسرقة ففي الغالب سيكون الحكم الأخف هو حكم اللصوص والحكم الأشد هو حكم الذين تضرروا من السرقة وسيمكن كل فريق منهم أن يجادل ويطيل الجدل في سبب اختياره
وحتى لو حسم الأمر بأغلبية فكثير من القوانين التي نراها تسن في الغرب أو الشرق تسن بفارق نسبة ضئيلة ويبقى الفريق المعارض يشعر بالظلم ويبدأ بتكوين تجمعات مناهضة على هيئة جمعيات أو منظمات حقوقية ويؤملون أن يغيروا هذا الأمر في المستقبل القريب وفِي هذه الأوقات يزدهر الجدل البيزنطي وربما تطور إلى تشاتم ومناكفة وحتى تضارب وهذه الأجواء تكون عادة مشحونة بالكراهية والتعصب والتربص للخصوم
وعليه الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من ربهم الذي خلقهم العالم بما في نفوسهم ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا )
وشرط ذلك أن يتلقى الناس هذا الكتاب بالتسليم ، فحين ينتقل الخلاف من دائرة الانحياز للنظير إلى دائرة فهم النص وفقا لقواعد أصولية بين متخصصين ولا يخرج عن الإجماع فإن الخلاف ينحسر ويقل ولهذا تجد حتى في المذاهب المختلفة عقائديا في الإسلام ضبط العلاقة بين الغني والفقير والذكر والأنثى والكبير والصغير منضبط عندهم إلى حد كبير وكذلك هو فيمن يستحق العقوبة ومن لا يستحق في الغالب وفِي ماهية العقوبات التي تحقق العدل ونزاعهم في ذلك يسير إذا ما قورن بنزاع الناس في السياقات العالمانية خصوصا في الغرب حتى يصل الخلاف إلى تجريم البغاء أو عدمه أو تجريم الإجهاض أو عدمه أو تجريم ما يسمونه مثلية أو عدمه أو تجريم اتيان الحيوانات أو عدمه وهل عقوبة الإعدام مقبولة من أصلها أم لا وكل ذلك لا يمكن أن يختلف فيه الشرعيون
وكل ما يشوش به العالماني اذا ذكر خلافيات المذاهب الفقهية ينطبق من باب أولى على هذه الخلافيات التي مردها إلى الانحياز للنظير والتحاكم للأهواء والنزعات
وحتى في الباب العقائدي يوجد في السياقات العالمانية مجموعة مواضيع وآراء اذا تكلمت بها فإنك تدان مثل تجريم الشيوعية والنازية في عدد من البلدان وكذلك معاداة السامية والعنصرية ضد السود ( وان كان هذا من أقلها حزما ) والآن يوجد عقوبات لمن يتكلم ضد الشواذ وأيضا على التصريحات التي تعتبر مضادة للنساء وإذا ثبت أصل العقوبة انتفت فكرة الحرية المطلقة وأحاطت بها قيود وكل شخص قيوده بحسب رؤيته الكونية
بل أحسب أن الذين قتلوا وعذبوا وسجنوا بسبب تهمة الإرهاب في العشرين سنة الأخيرة أكثر من الذين قتلوا بحد الردة والرجم طوال تاريخ المسلمين وكثير ممن جني عليهم في ملف الحرب على الإرهاب إما أبرياء باتفاق الجميع كأولئك الذين تدمر بلدانهم وتسفك دماؤهم وتنتهك أعراضهم بحجة مطاردة ارهابيين يشتبه أنهم حلوا بينهم أو أبرياء لفقت لهم التهم أو أناس لم تثبت عليهم التهمة وفقا لمقاييس القوم وتعجل بمعاقبتهم قبل تحقق الإدانة هذا إذا سلمنا أن مصطلح الإرهاب محرر وليس تهمة فضفاضة وما المسجون بأولى بها من السجان