الاستسقاء والتوسل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

إذا فتحت أي كتاب فقهي في باب الاستسقاء فستجد أنهم يذكرون صلاة الاستسقاء ودعاء الإمام على المنبر وتأمين الناس والخروج للصحراء للصلاة أو الدعاء

ولا تجد أحداً منهم يذكر الذهاب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الاستسقاء منه

مع أنه لو كان لا فرق عندهم بين حياة النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته لكان من المتعين ومن السنة أن يكون طلب الاستسقاء منه سنة لأهل المدينة على الأقل لأن الصحابة طلبوا الدعاء منه في حياته وسقوا

ولن تجد أي ذكر لأثر مالك الدار المختلف في صحته ودلالته في أي من كتب الفقه القديمة وما بني عليها لاحقاً

وأصل التمذهب مبني على أنه لا يجوز استخراج أمر من النصوص لم يجر عليه إفتاء الأئمة وهم ينقضون هذا الأصل باستدلالهم بأثر فرد غريب لم يورده أحد من العلماء المجتهدين الأوائل مستدلاً به على مشروعية طلب الاستسقاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مع أن بحث الاستسقاء من الأبحاث الشهيرة فقهياً

قال الشافعي رحمه الله تعالى: ” ويستسقي الإمام حيث يصلي العيد ويخرج متنظفا بِالْمَاءِ وَمَا يَقْطَعُ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ مِنْ سِوَاكٍ وغيره في ثياب تواضع وفي استكانة وما أحببته للإمام من هذا أحببته للناس كافة ويروى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – أنه خرج في الجمعة والعيدين بأحسن هيئة وروي أنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – خرج في الاستسقاء متواضعا وقال أحسب الذي رواه مبتذلا “.

وقال ابن قدامة في المغني :” (1483) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِمَنْ ظَهَرَ صَلَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ عَامَ الرَّمَادَةِ بِالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا عَمُّ نَبِيِّك – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَتَوَجَّهُ إلَيْك بِهِ فَاسْقِنَا. فَمَا بَرِحُوا حَتَّى سَقَاهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَلَمَّا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: أَيْنَ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ؟ فَقَامَ يَزِيدُ، فَدَعَاهُ مُعَاوِيَةُ، فَأَجْلَسَهُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إلَيْك بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، يَا يَزِيدُ، ارْفَعْ يَدَيْكَ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَثَارَتْ فِي الْغَرْبِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ، فَسُقُوا حَتَّى كَادُوا لَا يَبْلُغُونَ مَنَازِلَهُمْ. وَاسْتَسْقَى بِهِ الضَّحَّاكُ مَرَّةً أُخْرَى”

وعامة كلام الفقهاء لا يخرج عن هذا ومعلوم أن الاستسقاء بالعباس رضي الله عنه يعني بدعائه بدليل جعله بدلاً عن الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بدعائه ولو كان المقصود التوسل بذاته لكان التوسل بالنبي أولى ولما كان للعدول عن النبي للعباس معنى لأن التوسل بالميت على أصل الخصم جائز وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ولكن المراد مخالفة المذهبيين المجيزين للفعل المذكور في أثر مالك الدار لأصلهم المذهبي فالاستدلال بحديث فضلاً عن أثر على أمر لم يجر عليه عمل الأوائل مرفوض عندهم

وقد قال أبو حنيفة بعدم مشروعية صلاة الاستسقاء محتجا بأنه لم يجد لها ذكرا في استسقاء عمر وعلي

وقال مالك بعدم مشروعية سجود الشكر محتجا بأن عامة أخبار الصحابة في الفتوحات خالية من ذكرها

وهذان الاختياران مع كونهما مرجوحين إلا أن المتمذهب يحترمهما والقول بالمنع من التوسل بالذوات أو طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أولى ألف مرة بالاعتبار من هذين القولين لأن عامة أدعية الصحابة والتابعين خالية من التوسل بالذوات وقبلها عامة الأدعية النبوية وأما طلب الاستسقاء من النبي صلى الله عليه وسلم فعمل أهل المدينة في القرون الفاضلة عند القحط على خلافه بل وصح عن الصحابة تعمد تركه والعدول لدعاء الحي فكيف وقد اقترن بالتوسل البدعي وطلب الدعاء من النبي عند قبره أحوال لا يشك أحد بشركيتها من الاستغاثة الصريحة وإظهار الرغبة والرهبة للميت ووصل الأمر في كثير للذبح والنذر والسجود ودخل في ذلك قبور غير الأنبياء بل حتى من لم تثبت ولايته فشدد أهل العلم في هذا قطعا لباب الشر وهذا من جنس فعل عمر في قبر دانيال وقطعه لشجرة الرضوان