جاء في كتاب تزيين الأسواق للأنطاكي : حكى صاحب النزهة، قال نشأ ببني حران شاب لبعض التجار يدعى واصفاً وكان كامل الحسن والظرف واللطافة والعفة، وكان له ابنة عم تسمى لطيفة، وكانت على أرفع ما يكون من مراتب الجمال ومحاسن الأخلاق والخصال. فتوفي أبوها وتركها صغيرة فكفلها عمها حتى بلغت، فكانت تنظر إلى ابن عمها فيعجبها إلى أن تمكن حبه منها، فمرضت وهي تكتم أمرها. وكانت امرأة عمها فطنة مجربة للأمور فامتحنتها فوجدتها تغيب عن حسها أحياناً. فإذا دخل الغلام صحت والتمست ما تأكل فأخبرت أباه، فقال يا لها من نعمة، ثم زوجه منها فأوقع الله حبها في قلبه فأقاما على أحسن حال مدة، وهو يأمرها أن تكون دائماً متزينة متطيبة، ويقول لها لا أحب أن أراك إلا كذا فلم يزالا على ذلك حتى ضعف الشاب ومات، فحزنت عليه وفقدت عقلها، فكانت تتزين بأنواع زينتها كما كانت وتمضي وتمكث على قبره باكية إلى الغروب.
قال الأصمعي مررت أنا وصاحب لي بالجبانة فرأيتها على تلك الحالة فقلنا لها علام ذا الحزن الطويل فأنشدت:
فإن تسألاني فيم حزني فإنني … رهينة هذا القبر يا فتيان
وإني لاستحييه والترب بيننا … كما كنت أستحييه حين يراني
فعجبنا منها ثم جلسنا بحيث لا ترانا لننظر ما تصنع فأنشدت:
يا صاحب القبر من كان يؤنسني … وكان يكثر في الدنيا موالاتي
قد زرت قبرك في حلى وفي حلل … كأنني لست من أهل المصيبات
لزمت ما كنت تهوى أن تراه وما … قد كنت تألفه من كل هيآتي
فمن رآني رأى عبرى مولهة … مشهورة الزي تبكي بين أموات
ثم انصرفت فتبعناها حتى عرفنا مكانها فلما جئنا إلى الرشيد، قال حدثني بأعجب ما رأيت فأخبرته بأمر الجارية. فكتب إلى عامله على البصرة أن يمهرها عشرة آلاف درهم ففعل وأتي بها إليه وقد أنهكها السقم فتوفيت بالمدائن.
قال الأصمعي : فما ذكرها هارون الرشيد مرة إلا ذرفت عيناه .
أقول : وأنا أيضا والله ذرفت عيناي وسبحان الله ملك هارون كله ما كفى لمواساتها وفراق الأحباب عذاب عاجل على أهل الجحود مع ما ينتظرهم في الآخرة وكفارة لأهل الإيمان وتشويق لهم ليوم لقاء الله وتحصيل الثواب وهنا تذكرت صوتيتي الإيمان أمل كله ففيها بيان العلاج لمثل هذا