فإن مما ابتلينا في هذه الأيام محاولة التهوين من الخلاف مع الأشاعرة
وقد أحببت تسليط الضوء على نقطة
مهمة في الخلاف مع الأشاعرة
وهي الخلاف في مسألة الإيمان وتعريفه والزيادة والنقصان فيه
أولاً : تعريف الإيمان عند الأشاعرة
قال أبو الحسن الأشعري في اللمع ص75 :” الإيمان التصديق بالله”
قلت : ومقتضى هذا أن القول والعمل ليسا من الإيمان وهذا هو الإرجاء الغالي
قال الشهرستاني في الملل والنحل (1/100 ) :” الإيمان هو التصديق بالجنان.
وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه.
فمن صدق بالقلب ؛ أي أقر بوحدانية الله تعالى ، واعترف بالرسل تصديقا،
لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه ؛ حتى لو مات عليه في الحال
كان مؤمنا ناجيا، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك”
قلت : فانظر كيف صرح بأن القول من فروع الإيمان وليس من أصله فالنطق بالشهادتين
ليس من أصل الإيمان
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم النطق بالشهادتين أعلى شعب الإيمان فقال
:” الإيمان بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان ” رواه مسلم
والأشاعرة خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف فزعموا أن
النطق بالشهادتين ليس من أصل الإيمان
وهذا الفرق بينهم وبين مرجئة الفقهاء فمرجئة الفقهاء يجعلون النطق بالشهادتين
من الإيمان الذي لا يصح إلا به
وأما الأشاعرة فينصون على أن المؤمن لا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء
من أركان الإيمان كما هو صريح نص الشهرستاني _ فهذا مذهبهم حقاً فاعتمده في معرفتهم
ودع عنك شماطيط السبكي _
وقد صرح عبد القاهر البغدادي بوقوع الخلاف بين الأشاعرة في اعتبار الإقرار
من الإيمان
قال عبد القاهر في كتابه الفرق بين الفرق ص351 :” وقالوا في الركن
الثالث المضاف إلى الإيمان والإسلام ، إن أصل الإيمان المعرفة والتصديق بالقلب وإنما
اختلفوا في تسمية الإقرار وطاعات الأعضاء الظاهرة إيماناً “
قلت : فانظر كيف نقل الخلاف في اعتبار القول والعمل من الإيمان ، وهذا
هو عين الإرجاء الذي ذمه السلف كما سيأتي بيانه
وقبل هذا يقال بأن الآيات والأحاديث دالة على دخول العمل في مسمى الإيمان
وقد تقدم حديث الشعب ولا أبسط كثيراً في هذا الباب لمعرفة عامة القراء للأدلة الدالة
على ذلك
غير أنني أكتفي بذكر نص واحد في هذه المسألة
قال البخاري 87 – حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة
عن أبي جمرة قال:
كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فقال: إن وفد عبد القيس أتوا النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: (من الوفد أو من القوم). قالوا: ربيعة، فقال: (مرحبا بالقوم
أو بالوفد، غير خزايا ولا ندامى).
قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة،
وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر
نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة
فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع:
أمرهم بالإيمان بالله عز وجل وحده، قال: (هل تدرون ما الإيمان بالله وحده). قالوا:
الله ورسوله أعلم، قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم).
ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت. قال شعبة: ربما قال: (النقير). وربما
قال: (المقير). قال: (احفظوه وأخبروه من وراءكم).
قلت : فانظر كيف سمى الشهادتين وأركان الإسلام الأربعة إيماناً وفي هذا
الرد البليغ على إرجاء الأشاعرة
ثانياً: زيادة الإيمان ونقصانه عند الأشاعرة
وقد صرح طائفة من الأشاعرة بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص إمعاناً منهم
في الإرجاء الغالي
قال المرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/ 256) :” وقال أبو
حنيفة وأصحابه بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقصواختاره أبو منصور الماتردي ومن الأشاعرة
إمام الحرمين وجمع كثير “
وقد صرح النووي بأن عامة متكلمي الشافعية ( الأشاعرة ) على القول بأن التصديق
القلبي لا يزيد ولا ينقص
قال النووي في شرح مسلم (1/148) :”فاذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف
وأئمة الخلف فهي متظاهرة متطابقة على كون الايمان يزيد وينقص وهذا مذهب السلف والمحدثين
وجماعة من المتكلمين
وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه
وقالوا متى قبل الزيادة كان شكا وكفرا
قال المحققون من أصحابنا المتكلمين نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والايمان
الشرعى يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الاعمال ونقصانها “
قلت : زيادة الأعمال ونقصانها لا ينكرها أحد لأن الحس يشهد بها وأما الإيمان
القلبي _ الذي حصروه بالتصديق _ فقد ثبت تفاضله بالأدلة الصريحة من الكتاب والسنة
من أوضحها دلالةً حديث أبي سعيد :” فيقول: انطلق فأخرج من كان في
قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل”
رواه البخاري
وقال ابن حجر في شرح البخاري (1/47) :” وقال إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن
قلبي أشار إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية فروى بن جرير بسنده الصحيح
إلى سعيد قال قوله ليطمئن قلبي أي يزداد يقيني وعن مجاهد قال لازداد إيمانا إلى ايماني
“
قلت : واليقين من درجات التصديق وقد أثبت سعيد فيه الزيادة وقد انعقد اتفاق
السلف على مخالفة مرجئة الأشاعرة
وابن حجر مع ذكره لكلام السلف عاد إلى تقرير الإرجاء فقال في شرحه على البخاري (13/109) :” وَتَعَقَّبَهُ وَابْن الْمُنِير بِأَنَّ الْإِيمَان لَا يَتَبَعَّض وهو كما قال “
ولهذا تعجب منه الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فقال كما في الدرر السنية (1/51) :” وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك، مثل ما ذكر في فتح الباري، في مسألة الإيمان، على قول البخاري: وهو قول وعمل، ويزيد وينقص; فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي: أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله، ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين، ولم يرده.
فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها، أو تأول شيئا من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم، ونقلهم الإجماع: أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء؛ والكلام في هذا يطول.
والحاصل: أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان”
فتأمل هذا النقد الشديد
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في رسالة المقامات متحدثاً عن جده المجدد :” ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى بعد رحلته إلى البصرة وتحصيل ما حصل بنجد وهناك رحل إلى الإحساء، وفيها فحول العلماء منهم عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ما سر به وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد، وحضر مشايخ الإحساء ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، وطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري وبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدّر البخاري كتابه من الأحاديث والآثار وبحث معهم في مسائل وناظر هذا أمر مشهور يعرفه أهل الإحساء وغيرهم من أهل نجد، فإذا خفي عليك يا ابن منصور هذا أو جحدته فغير مستغرب والعدو يجحد فضايل عدوه”
فواضح من هذا النص اعتبارهم له من الأشاعرة وجعله مثالاً لغلطهم في مسائل الإيمان ومخالفتهم للسلف على معرفة بمذاهب السلف
ثالثاً : ذكر بعض ما جاء عن الإمام أحمد في ذم أهل الإرجاء
قال الخلال في السنة 959: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ
, قَالَ :
سَمِعْتُ أَحْمَدَ وَقِيلَ لَهُ
: الْمُرْجِئَةُ مَنْ هُمْ ؟
قَالَ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ الإِيمَانَ
قَوْلٌ.
960: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ , أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
قِيلَ لَهُ : مَنِ الْمُرْجِئُ ؟
قَالَ : الْمُرْجِئُ الَّذِي يَقُولُ
: الإِيمَانُ قَوْلٌ.
961: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ
أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ
لَهُ : الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ
قلت : فما بالك بالأشاعرة الذين اختلفوا في دخول الأقوال في مسمى الإيمان
وعامتهم على إخراج العمل من مسمى الإيمان
وقال الخلال 978: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ وَاصِلٍ
الْمُقْرِئُ
أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ
: مَنْ قَالَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ بِلاَ عَمَلٍ , وَهُوَ يَزِيدُ وَلاَ يَنْقُصُ
قَالَ : هَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ
قلت : فما بالك بالأشاعرة الذين قالوا لا يزيد ولا ينقص وأخرجوا العمل
بل والقول عن مسمى الإيمان
وقال الخلال 1009: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الأَسَدِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ
, عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ , قَالَ :
سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ مَنْ قَالَ
: الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟
قَالَ : هَذَا بَرِيءٌ مِنَ الإِرْجَاءِ.
قلت : فالمنكر للزيادة والنقصان واقعٌ في الإرجاء وهذا حال الأشاعرة
وبعد أن تبين أن كثيراً من الأشاعرة قد انخرطوا في سلك الإرجاء
أقول :
اعلم أن كل أثرٍ تقرأه في ذم أهل الإرجاء فعليك تنزيله على الأشاعرة والماتردية
إذ أنهم من غلاة المرجئة بل تكفير السلف لغلاة المرجئة الجهمية ينزل عليهم
واعلم أيضاً أن الإرجاء من البدع التي جد السلف في إنكارها وتبكيت أهلها
قال الخلال في السنة 1024: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ
, قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
آدَمَ , قَالَ :
شَهِدَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ شَرِيكٍ
بِشَهَادَةٍ , فَقَالَ لَهُ : قُمْ , وَأَبَى أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ , فَقِيلَ لَهُ
: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ
فَقَالَ : أُجِيزُ شَهَادَةَ رَجُلٍ
يَقُولُ : الصَّلاَةُ لَيْسَتْ مِنَ الإِيمَانِ ؟.
وقال أيضاً 1146: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ , وَسُلَيْمَانُ
بْنُ الأَشْعَثِ , وَأَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ الْمُزَنِيُّ , وَهَذَا لَفْظُ سُلَيْمَانَ
, قَالَ : قُلْتُ لأَحْمَدَ : يُصَلَّى خَلْفَ الْمُرْجِئِ ؟
قَالَ : إِذَا كَانَ دَاعِيَةً
فَلاَ يُصَلَّى خَلْفَهُ.
1147: وَأَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ
, يَقُولُ :
لاَ يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ زَعَمَ
أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً.
قلت : هذا يدل على أن الإرجاء عندهم بدعة مغلظة توجب النفرة ، وما صنيع
أحمد مع شبابة بن سوار عنا ببعيد وقوله خيرٌ من قول الأشاعرة
وأما الماتردية فهم شر من الأشاعرة إذ أنهم ضموا إلى ما سبق نقله عن الأشاعرة
منع الإستثناء في الإيمان والتشنيع على من استثنى
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم