الأصل في نشر العلم أن مصلحته راجحة

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ }

وقال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }

وقال البخاري في صحيحه [ 3461 ] :

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ
النَّارِ

وقال أحمد في مسنده [ 4157] :

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ – قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ -:

نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ،
فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَحْفَظُ لَهُ مِنْ سَامِعٍ.

دلت هذه النصوص على أن الأصل في نشر العلم النافع أن مصلحته راجحة أو خالصة

 فإن الله عز وجل لا يأمر بشيء
إلا ومصلحته راجحة أو خالصة ، والنهي عن الكتمان أمرٌ بالنشر إذ أن النهي عن الشيء
أمرٌ بضده

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى [26/ 54] :

” ولهذا لما قال سلمة بن شبيب لأحمد يا أبا عبدالله قويت قلوب الرافضة
لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة _ يعني متعة الحج _ فقال يا سلمة كان يبلغني عنك أنك
أحمق و كنت أدافع عنك و الآن فقد تبين لي أنك أحمق عندي أحد عشر حديثا صحيحا عن رسول
الله صلى الله عليه و سلم أدعها لقولك”

أقول : في هذا النص عن أحمد فوائد

الأولى : شدته على من دعاه إلى كتمان العلم

الثانية : أنه لم يرَ وجهاً لكتمان العلم ، وإن وافق قول الرافضة وخالف
قول أهل السنة في بلد معين ولم يرَ ذلك موجباً للكتمان ، وهذا من عظيم فقهه إذ أن كتمان
هذا هو الذي يقوي قلوب الرافضة مآلاً إذا رأوا أهل السنة يخالفون الحديث وهم يوافقونه
فبذلك يستطيلون على أهل السنة

وهذه طريقة مسلوكة عند أهل العلم

قال شيخ الإسلام في منهاج السنة [4/ 151] :

” وأما الطريق الثاني في الجواب فنقول الذي عليه أئمة الإسلام أن
ما كان مشروعا لم يترك لمجرد فعل أهل البدع لا الرافضة ولا غيرهم وأصول الأئمة كلهم
توافق هذا منها مسألة التسطيح الذي ذكرها .

فإن مذهب أبي حنيفة واحمد بن حنبل تسنيم القبور أفضل كما ثبت في الصحيح
أن قبر النبي صلى الله عليه و سلم كان مسنما ولأن ذلك أبعد عن مشابهة أبنية الدنيا
وأمنع عن القعود على القبور

والشافعي يستحب التسطيح لما روى من الأمر بتسوية القبور فرأى أن التسوية
هي التسطيح ثم إن بعض أصحابه قال إن هذا شعار الرافضة فيكره ذلك فخالفه جمهور الأصحاب
وقالوا بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة .

وكذلك الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة وبعض الناس تكلم في الشافعي بسببها
وبسبب القنوت ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية .

لأن المعروف في العراق أن الجهر كان من شعار الرافضة وأن القنوت في الفجر
كان من شعار القدرية الرافضة.

حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة
لأنه كان عندهم من شعار الرافضة كما يذكرون المسح على الخفين لأن تركه كان من شعار
الرافضة .

ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول
الرافضة

وكذلك إحرام أهل العراق من العقيق يستحب عنده وإن كان ذلك مذهب الرافضة
ونظائر هذا كثيرة

وكذلك مالك يضعف أمر المسح على الخفين حتى أنه في المشهور عنه لا يمسح
في الحضر وإن وافق ذلك قول الرافضة .

وكذلك مذهبه ومذهب أحمد المشهور عنه أن المحرم لا يستظل بالمحمل وإن كان
ذلك قول الرافضة .

وكذلك قال مالك إن السجود يكره على غير جنس الأرض والرافضة يمنعون من السجود
على غير الأرض .

وكذلك أحمد بن حنبل يستحب المتعة متعة الحج ويأمر بها حتى يستحب هو وغيره
من الأئمة أئمة أهل الحديث لم أحرم مفردا أو قارنا أن يفسح ذلك إلى العمرة ويصير متمتعا
لأن الأحاديث الصحيحة جاءت بذلك .

حتى قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد يا أبا عبد الله قويت قلوب الرافضة لما
أفتيت أهل خراسات بالمتعة .

فقال يا سلمة كان يبلغن عنك أنك أحمق وكنت أدفع عنك والان فقد ثبت عندي
أنك أحمق .

عندي أحد عشر حديثا صحاحا عن النبي صلى الله عليه و سلم أتركها لقولك”
إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى

فهذا الشافعي يفعل ما يراه سنةً وينشره وإن نسبه الناس إلى البدعة والضلالة
، وهذه يراها كثيرون اليوم من باب المصالح فيتركون إبلاغ العلم

وقال ابن كثير في فضائل القرآن ص190:

” وقال أبو عُبَيْد القاسم بن سلام: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال:
نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث “زينوا القرآن بأصواتكم”.

قال أبو عبيد: وانما كره أيوب فيما نرى أن يتأوَّل الناس بهذا الحديث الرخصة
من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى الألحان المبتدعة، فلهذا نهاه
أن يحدِّث به.

“قلت – يعني ابن كثير – “: ثم إن شعبة -رحمه الله- روى الحديث
متوكلا على الله كما روي له

 ولو ترك كل حديث يتأوله مبطل،
لترك من السنة شيء كثير، بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة من القرآن، وحملوها على
غير محاملها الشرعية المرادة، وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا
بالله”

وهذا الأمر يتأكد في أمور الحلال والحرام ، التي يحتاجها الناس ، وكذلك
في معرفة درجات الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة صحيحها من
سقيمها وهذا يحتاجه عامة المسلمين .

فلا ينبغي كتمه من أجل بعض التعليلات الباردة مثل ( ربما استغل أهل الأهواء
ردك على العالم )

 إذا كان الأمر كذلك فلا يرد على
زلة عالم قط ، وتنتشر زلاتهم بين الناس .

فلا شك أن بيان زلة العالم ولو وافقت فيه بعض أهل الأهواء ، لا شك أنه
واجب كما تقدم في نصوص أهل العلم .

وأهل الأهواء إنما تقر عيونهم ببقاء زلات العالم منتشرة بين الناس ليرموا
أهل السنة بالتقليد ومخالفة الحق تعصباً لشيوخهم .

وهذه المفسدة المزعومة تعارضها مفسدة أعظم وهي انتشار الباطل بين المسلمين

قال ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير ص1 :

” وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق
بين جرح الرواة وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا
يتسع علمه ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته
منهم ومن لا تقبل , وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّلَ شيئاً
منها على غير تأويله وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه
.

وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا .

ولهذا نجد في كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير وشروح
الحديث والفقه واختلاف العلماء وغير ذلك ممتلئة بالمناظرات وردِّ أقوال من تُضَعَّفُ
أقواله من أئمة السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .

ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه
ولا ذمَّاً ولا نقصاً اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ويُسيءُ الأدب
في العبارة فيُنكَر عليه فحاشته وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته ، إقامةً للحجج الشرعية
والأدلة المعتبرة .

وسبب ذلك أن علماء الدين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله
به رسوله صلى الله عليه وسلم ولأنْ يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا ،
وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم
ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين.

فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم
وإن كان صغيراً ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم “

فمضمون كلام ابن رجب أن الرد على زلة العالم مع حفظ مقامه في أي باب من
أبواب العلم مسلك سلفي سار عليه العلماء قديماً وحديثاً ، وأن ذلك الحق يجب قبوله من
قائله وإن كان صغيراً .

واليوم إذا رددت على خطأ سلفي أو منتسب للمنهج السلفي ( وإن كان ليس عالماً
) انتشر بين الناس

 وجدت هذا المردود عليه أو من يتعصب
له بدلاً من المناقشة العلمية أو الإذعان للحق قد جهز لك عدداً من التهم

الأولى : تصيد الأخطاء

الثانية : عدم الاشتغال بعيوب النفس ، ولا أدري أين ذهب حديث ( الدين النصيحة
)

الثالثة : تفريق السلفيين وهو أولى بهذه التهمة لعناده وعدم قبوله الحق

الرابعة : طلب الشهرة

الخامسة : الاتهام بأنك دسيسة ( وهذه ليست دائماً )

وهذه لو تأملتها وجدت عامتها طعناً في النيات ، وتزكية للنفس بأنه لا يمكن
الوقوف على أخطائه إلا بتتبع مع سوء قصد من المتتبع.

ويمكن أن يقابله مخالفه بمثلها أو أكثر فيتهمه مثلاً بالضعف العلمي ، والكبر
عن الحق ، وعدم النظر في عيوب النفس وقبول نصح الناصحين وغيرها من التهم التي هي أحظى
بالأدلة من تلك التهم السابقة

والسلفي ينبغي أن يكون متواضعاً للحق ، لا أن يطالب بحصانة تشبه حصانة
الدبلوماسيين

فالسلفي لا يرد عليه ولا يبين خطؤه ، ثم يضع في الراد عليه والرد شروطاً
كثيرة لا أصل لها في الكتاب والسنة وآثار السلف ، وما يريدون بذلك إلا حماية أنفسهم
، حتى أن بعضهم اشترط المناصحة السرية وإن كان الخطأ معلناً

قال البخاري في صحيحه [ 2856 ] :

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ آدَمَ حَدَّثَنَا
أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ
يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ
وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ
حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ
الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَقُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا

وقال مسلم في صحيحه 56- [52-31] :

حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ
، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ ، قَالَ
: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ :

 كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ
، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا
، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا ، وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا ، وَفَزِعْنَا ، فَقُمْنَا
، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ ، فَدُرْتُ
بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا ؟ فَلَمْ أَجِدْ ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ
حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ ، وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ ، فَاحْتَفَزْتُ ، فَدَخَلْتُ
عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ
فَقُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : مَا شَأْنُكَ ؟ قُلْتُ : كُنْتَ بَيْنَ
أَظْهُرِنَا ، فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا ، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا
، فَفَزِعْنَا ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ ، فَاحْتَفَزْتُ
كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ ، وَهَؤُلاَءِ النَّاسُ وَرَائِي ، فَقَالَ : يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ ، قَالَ : اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ ، فَمَنْ
لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا
بِهَا قَلْبُهُ ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ
، فَقَالَ : مَا هَاتَانِ النَّعْلاَنِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ فَقُلْتُ : هَاتَانِ
نَعْلاَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ
لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ ، بَشَّرْتُهُ
بِالْجَنَّةِ ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لاِسْتِي ، فَقَالَ
: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً ، وَرَكِبَنِي عُمَرُ ، فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي
، فَقَالَ لي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لَكَ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ ؟ قُلْتُ : لَقِيتُ عُمَرَ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ
، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لاِسْتِي ، قَالَ : ارْجِعْ ، قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عُمَرُ ، مَا حَمَلَكَ عَلَى
مَا فَعَلْتَ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، بِأَبِي أَنْتَ ، وَأُمِّي ، أَبَعَثْتَ
أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ ، مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَلاَ
تَفْعَلْ ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا ، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ
، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَخَلِّهِمْ.

هذان الحديثان يدلان على كتمان بعض العلم ، عمن ربما ضره ذلك ، ولكن تأمل
ما الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتمه ؟

الجواب : إنما أمر بكتم الثواب المترتب على التوحيد ، ولم يأمر بكتم التوحيد
نفسه ، فلا يقاس عليه كتم مسائل الحلال والحرام التي يحتاجها الناس .

فإن المسلم إذا اعتقد وجوب شيء لا يترك هذا الواجب لعدم معرفته بثوابه
، ولكن ربما حملته معرفة الثواب على الاتكال إذا كان ثواباً عظيماً ، خصوصاً مع عدم
معرفة عموم الناس بالقيود والضوابط التي يتوقف عليها الثواب.

ومع ذلك لم يكتم الصحابة هذه الأحاديث مطلقاً وإنما حدثوا بها من ينتفع
بها ، وكتموها عمن يضره سماعها دون فهمها على الوجه الصحيح

والعجيب أن كثيراً ممن يتمطق بأمر المصالح ، لا تجد عنده مندوحةً من تحديث
العوام بأحاديث الفضائل ، وأما السنة والبدعة والجرح والتعديل فهذه المصلحة تقتضي عدم
الكلام فيها !

قال البخاري في صحيحه [ 3928 ] :

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا
مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ :

أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَهُوَ
بِمِنًى فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَوَجَدَنِي فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ
وَغَوْغَاءَهُمْ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا
دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلَامَةِ وَتَخْلُصَ لِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ
النَّاسِ وَذَوِي رَأْيِهِمْ قَالَ عُمَرُ لَأَقُومَنَّ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ
بِالْمَدِينَةِ

هذا الأثر ليس فيه كتم شيء من السنة ، وإنما كتم دقائق مسائل السياسة عن
عوام الناس إذ أن الأمر لأهل الحل والعقد ، وعوام الناس لا شأن لهم بهذا ، وإنما هم
تبع لأهل الحل والعقد فيه وأولى بهم تعلم مسائل التوحيد والحلال والحرام ، وأما تحذير
الناس ممن يأخذون منه العلم إذا كان مبتدعاً فليس من الباب الذي يكتم بل هو مما يجب
الكلام فيه

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [28/ 231] :

” وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ
لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ”

فتأمل قوله ( وتحذير الأمة ) فهذا يشمل العوام وغيرهم ، بل من ليس عنده
كبير علم أعظم انتفاعاً بتحذيرات أهل العلم ، من الذي عنده علم لأن الذي عنده علم ربما
أدرك بما عنده من العلم من فساد أحوال أهل البدع نحواً مما بينه العلماء

وقال مسلم في صحيحه [ 58] :

حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، وَهُوَ
ابْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَاصِمٌ ، قَالَ :

 كُنَّا نَأْتِي أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ وَنَحْنُ غِلْمَةٌ أَيْفَاعٌ ، فَكَانَ يَقُولُ لَنَا : لاَ
تُجَالِسُوا الْقُصَّاصَ غَيْرَ أَبِي الأحوص ، وَإِيَّاكُمْ وَشَقِيقًا ، قَالَ :
وَكَانَ شَقِيقٌ هَذَا يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ ، وَلَيْسَ بِأَبِي وَائِلٍ.

فهذا حذرهم من القصاص وهم غلمة أيفاع ، ولم يقل لا مصلحة في هذا أو غيرها
من الكلمات التي تنتشر اليوم ويخذلون بها

وقال ابن حجر في شرح البخاري[10/ 486] :

” قَالَ الْعُلَمَاء : تُبَاح الْغِيبَة فِي كُلّ غَرَض صَحِيح شَرْعًا
حَيْثُ يَتَعَيَّن طَرِيقًا إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ بِهَا : كَالتَّظَلُّمِ ، وَالِاسْتِعَانَة
عَلَى تَغْيِير الْمُنْكَر ، وَالِاسْتِفْتَاء ، وَالْمُحَاكَمَة ، وَالتَّحْذِير مِنْ
الشَّرّ ، وَيَدْخُل فِيهِ تَجْرِيح الرُّوَاة وَالشُّهُود ، وَإِعْلَام مَنْ لَهُ
وِلَايَة عَامَّة بِسِيرَةِ مَنْ هُوَ تَحْت يَده.

وَجَوَاب الِاسْتِشَارَة فِي نِكَاح أَوْ عَقْد مِنْ الْعُقُود .

وَكَذَا مَنْ رَأَى مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّد إِلَى مُبْتَدِع أَوْ فَاسِق
وَيُخَاف عَلَيْهِ الِاقْتِدَاء بِهِ . وَمِمَّنْ تَجُوز غِيبَتهمْ مَنْ يَتَجَاهَر
بِالْفِسْقِ أَوْ الظُّلْم أَوْ الْبِدْعَة”

ابن حجر على ما عنده في العقيدة ينقل اتفاق أهل العلم في هذا وأصل كلامه في شرح السنة للبغوي 

وقال الدارمي في الرد على المريسي ص97:

” فَخَشِينَا أَن لَا يَسَعَنَا إِلَّا الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ بَثَّهَا
وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، مُنَافَحَةً عَن الله، وتثبيتًا لصفاته الْعليا، وَلِأَسْمَائِهِ
الْحُسْنَى.

وَدعاء إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى. وَمُحَامَاةً عَنْ ضُعَفَاءِ النَّاسِ
وَأَهْلِ الْغَفْلَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَن يضلوا بهَا، أَو أَن يفتنوا،
إِذْ بَثَّهَا فِيهِمْ رَجُلٌ كَانَ يُشِيرُ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فِقْهٍ
وَبَصَرٍ وَلَا يَفْطنُون لعثراته إِن هُوَ غش، فَيَكُونُوا مِنْ أَخَوَاتِهَا مِنْهُ
عَلَى حذر”

فبين أن رده وتحذيره إنما كان لحماية عوام الناس من النساء والصبيان وأهل
الغفلة

وقال الخلال في السنة [ 1760] :

أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ , أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَهُمْ :

أَنَّهُ حَضَرَ الْعِيدَ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : فَإِذَا
بِقَاصٍّ يَقُولُ : عَلَى ابْنِ أَبِي دَاوُدَ لَعْنَةُ اللَّهِ , وَحَشَا اللَّهُ
قَبْرَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِئَةَ أَلْفِ عَمُودٍ مِنْ نَارٍ , وَجَعَلَ يَلْعَنُ

 فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
: مَا أَنْفَعَهُمْ لِلْعَامَّةِ.

فهذا قاص ، ولا شك أن الجلوس عنده عامتهم عوام ، ومع ذلك أثنى أحمد على
تحذيره من أهل البدع بل ولعنه لابن أبي دؤاد

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم