اقتراح ابن تيمية الذي لا يطبق!

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

اقتراح ابن تيمية الذي لا يطبق!

مع كل حادثة وفاة لرجل مشهور يتنازع الناس في تقويم عقيدته يتفرغ النقاش المشهور حول أمر الترحم عليه، ودائما يتم استدعاء شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه مثال على التسامح مع المخالف والدعوة للترحم عليه وتستدعى هذه الحادثة التي ذكرها ابن القيم: «وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع. ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه. ونحو هذا من الكلام. فسروا به ودعوا له. وعظموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضي عنه. وهذا مفهوم».

علما أنها لا يوجد فيها ذكر للترحم ولكنها تدل بالمجمل على عدم الفرح بموت المخالفين العقائديين وتألف أهله ففي ذلك مصلحة ميل قلوبهم للحق؛ غير أنني كنت أنتظر باستمرار أن يأتي أحد بتأصيل الشيخ العام في المسألة فكل عالم مذاهبه تؤخذ من تأصيلاته التنظيرية التفصيلية لأن التطبيقات الفردية منه يكتنفها ما يكتنفها من القرائن التي تجعلها لا يؤخذ منها مذهبه بشكل واضح!

ولكن مع الأسف غالبا لا تذكر تأصيلات الشيخ العامة وسأذكر كلامه والذي أعلم أنه سيكون صادما لبعض من صور لهم الشيخ على غير حقيقته العلمية الرصينة المتزنة البعيدة عن العاطفة الجياشة غلوًا وجفاءً.

قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (3/22): [ومن كان مبتدعا ظاهر البدعة وجب الإنكار عليه ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته ويدعو إليه وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الأئمة والله أعلم].
تأمل قوله (ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته) فلم يقل ابن تيمية أن وفاة الشخص ليست بابًا للجرح والتعديل فالصحابة رضوان الله عليهم أثنوا على جنازة خيرًا وعلى أخرى شرًا وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم.. ولم يقل ابن تيمية أن ترك الصلاة على هذا الشخص لهذه المصلحة من باب تضييق رحمة الله معاذ الله من هذا الظن وإلا كان النبي صلى الله عليه وسلم حين ترك الصلاة على بعض أهل الذنوب كان يضيق رحمة الله! حاشاه صلى الله عليه وسلم وإنما هذا من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة كأمر إقامة الحدود في ساحة عامة فإن ذلك مع ما فيه هتك لمسلم فإنه في مصلحة ردع الناس عن مثل سلوكه وكثير من الناس ينكر على العالمانيين في طعنهم في الحدود ثم هو يشابه مقدماتهم في إنكار ممارسات سلفية علمية.
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (24/ 286): ((وأما من كان مظهرا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فهؤلاء لا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين. ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجرا لأمثاله عن مثل ما فعله كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قاتل نفسه وعلى الغال وعلى المدين الذي لا وفاء له وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع -كان عمله بهذه السنة حسنا. (وقد قال لجندب بن عبد الله البجلي ابنه: إني لم أنم البارحة بشما فقال: أما إنك لو مت لم أصل عليك). كأنه يقول: قتلت نفسك بكثرة الأكل. وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسنا ومن صلى على أحدهم يرجو له رحمة الله ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة كان ذلك حسنا ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت إحداهما. وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له والصلاة عليه بل يشرع ذلك ويؤمر به)).
فتأمل كيف أن شيخ الإسلام قال (كان عمله بهذه السنة حسنا) يعني ترك الصلاة على أهل البدع.
وتأمل كيف أنه اقترح (إذا كنت لا تكفر هذا المبتدع) أن تمتنع من الصلاة عليه أمام العامة لئلا يغتروا به وتترحم عليه في نفسك وهذا اقتراح لا يمكن للمعترض أن يقول فيه أنه تضييق لرحمة الله.
فاليوم كثيرون لا يقف الأمر عندهم على الترحم بل يكون تقريظا للشخص وجهوده العلمية ونشرها بين العامة فإذا كان فيها مشكلات علمية فإنه يجب التنبيه على ما فيها سواء كان صاحبها حيا أو ميتا.

فالخلط بين مطلق الترحم والترحم في العلن والترحم مع الثناء والتقريظ والرفع من الشأن هو أساس التلبيس في هذا الباب عند كثير من المنتسبين للعلم ثم هم يرمون مخالفهم بالغلو مطلقاً ويطلقون إطلاقات نهايتها اتهام السلف بقلة الورع والمروءة فسفيان امتنع عن الصلاة على ابن أبي رواد المرجيء وقال: ليعلم الناس أنه مات على بدعة. وهو من هو في الورع وانظر استدلالات ابن تيمية أعلاه وتأمل فيها –بارك الله فيك-.

وانظر كيف لخص علاء الدين البعلي الدمشقي مذهب شيخ الإسلام في المسألة في كتابه «الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية» الذي جمع فيه اختيارات شيخ الإسلام وهو الخبير بالشيخ، يقول البعلي في ص131 من كتابه المذكور طبعة دار العاصمة: ((ولا يجوز لأحد أن يترحم على من مات كافرا ومن مات مظهرا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجرا لأمثاله عن مثل فعله كان حسنا ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان أولى من تفويت إحداهما)).

تأمل قوله (لا يجوز) ثم تقييده للأمر بالظاهر أمام الناس؛ ولا شك أن أمر البدع كأمر الكبائر بل البدع أشد والشيخ يقرن بينهما في نصوصه الأخرى وهذا النص هو كلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى وطريقة البعلي أنه ينظر في فتاوى الشيخ المتفرقة ثم يختار أدل نص على مذهبه التفصيلي ويثبته في الاختيارات.

وما شرحته في هذا المقال أمر متكرر وهو الاقتطاع من تراث ابن تيمية بما يناسب مزاج الباحث فحسب لذا نحن بحاجة لقراءات منصفة ومدققة في تراث الشيخ وفقاً للتراث العلمي الذي ينتمي إليه الشيخ تراث أهل الحديث والحنابلة لا محاولة إظهاره على أنه حالة فريدة مناقضة لما يعتبره هؤلاء غلواً من السلف فهذه سبة في حق أي سلفي فضلاً عن مجدد من مجددي السلفية.