قال أبو إسحاق الفزاري في «السير» “89- عبد الله بن شوذب، عن أبي التياح، قال: سأل رجل عبد الله بن عمر فقال: إن امرأة جعلت بعيرا لها في سبيل الله، أفيحمل عليه رجل منقطع به من حاج بيت الله؟ فقال: أولئك وفد الله، لا وفد الشيطان، أولئك وفد الله لا وفد الشيطان، أولئك وفد الله لا وفد الشيطان. قيل له: وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يبعثهم أمراء الأجناد إلى العمال، فيخبرونه أن الناس راضون، وليسوا براضين وأن الناس قد أُعطوا حقوقهم، ولم يُعطَوا حقوقهم، أولئك وفد الشيطان”.
أقول: أبو إسحاق الفزاري قديم جداً، توفي قبل ولادة البخاري، وهو من أتباع التابعين، وكتابه هذا من أقدم التصانيف بين أيدينا.
ورجال هذا الخبر ثقات، ولا يبدو لي أن أبا التياح سمع ابن عمر، فهو يروي عنه بواسطة أبي مجلز في العادة، وهو ثقة، وقد سمع أبو التياح من أنس، وهذا أمر مغتفر في الموقوف، وأبو التياح مشهور بصلاحه وتقواه وتثبته الشديد.
وقد لفت نظري في هذا الأثر وصف ابن عمر لـ”وفد الشيطان”، وهم قوم يزيِّنون للأمراء أحوالهم، ويوهمونهم العدل وهم ظلمة، فيقطعون عليهم طريق مراجعة النفس.
وهؤلاء كثير اليوم، فكل ظلم يؤيدونه تحت ذرائع مختلفة، ترى المرء منهم سلَّمه الله تبارك وتعالى من الولاية وتبعاتها، فيأبى إلا أن يحمل أوزارها بتأييد كل قرار وإن كان فيه شبهة ظلم أو ظلم صريح، فيشرُك الوالي أو المسئول في وزره، وما شركه في ماله ووجاهته، فما أتم خسرانه.
وبعضهم يلبس عليه الشيطان أنه بذلك يحفظ الأمن أو يغيظ الأعداء، وحفظ الأمن وإن كان مطلباً، فالنصيحة والعدل مطالب شرعية، وهي من أعظم ما يُحفظ به الأمن، كما ورد في الحديث: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم»، ومن النصيحة للظالم أن تأخذ على يده وتعظه أو تشرح له مظلمة المظلوم، ومن النصيحة للمظلوم أن تسعى بما تستطيعه ويُشرع من تحصيل حقه.
ومنهم من يفعل ذلك لدنيا أو تملقاً، فبئس ما شرى به نفسه أن ترك كل طرق الرزق المباحة وأقبل على هذا الطريق الخسيس، والذي غالباً لا يدوم فيه الأمر لأهله.
وفد الشيطان هم قوم يوهمون المرء الذي على شر أنه على خير.
وهذا يشمل من يهون خلاف الاعتقاد، فيوهم المرء المتورط ببلاء عظيم من فساد المعتقد أنه على خير، وإن كان له أتباع كثير، فيفتتن به أناس كثير، وقد قطع عليه المداهن طريق مراجعة نفسه.