اتركوه فإن له جهوداً دعوية !

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد كثر في هذه الأيام ترديد عبارة ( فلان له جهود دعوية فاسكتوا عنه
) أي لا تتعرضوا له حتى بنقد خطأ ، بهذا الإطلاق دون تفصيل في حال الخطأ والمخطيء ،
ثم نتج بعد ذلك الاعتراض على العلماء في جرحهم لبعض الأشخاص ، واتهامهم بأنهم أهل هدم
وإسقاط وإقصائية ، وقد كتب في هذا كثير ، لكنني أريد أن أنبه على مسألة ( الجهود الدعوية
) ، وحيلولتها دون نقد أخطاء الشخص فضلاً عن الحكم على عينه بابتداع أو فسق أو غير
ذلك

قال الإمام مسلم 7192 : حَدَّثَنِى أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ مَوْلَى بَنِى أُمَيَّةَ أَخْبَرَنِى
ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهُوَ يُرِيدُ الرُّومَ وَنَصَارَى الْعَرَبِ
بِالشَّامِ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ
بَنِيهِ حِينَ عَمِىَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ
تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ كَعْبُ
بْنُ مَالِكٍ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَزْوَةٍ
غَزَاهَا قَطُّ إِلاَّ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّى قَدْ تَخَلَّفْتُ فِى غَزْوَةِ
بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهُ إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ
وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِى
النَّاسِ مِنْهَا وَكَانَ مِنْ خَبَرِى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّى لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ
مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا
رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ فَغَزَاهَا رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا
وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلاَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا
أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِى يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَثِيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ
– يُرِيدُ بِذَلِكَ الدِّيوَانَ – قَالَ كَعْبٌ فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ
يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْىٌ مِنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ
طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَىْ أَتَجَهَّزَ
مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. وَأَقُولُ فِى نَفْسِى أَنَا قَادِرٌ عَلَى
ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِى حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ
الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ
مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِى شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ
شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِى حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ
فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِى فَعَلْتُ ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ
ذَلِكَ لِى فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِى النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- يَحْزُنُنِى أَنِّى لاَ أَرَى لِى أُسْوَةً إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا
عَلَيْهِ فِى النِّفَاقِ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَلَمْ
يَذْكُرْنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَلَغَ تَبُوكًا فَقَالَ
وَهُوَ جَالِسٌ فِى الْقَوْمِ بِتَبُوكَ « مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ». قَالَ
رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِى
عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلاً مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ ». فَإِذَا
هُو أَبُو خَيْثَمَةَ الأَنْصَارِىُّ وَهُوَ الَّذِى تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ
لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ. فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَلَمَّا بَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِى بَثِّى
فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ
عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِى رَأْىٍ مِنْ أَهْلِى فَلَمَّا قِيلَ لِى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّى الْبَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ
أَنِّى لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَىْءٍ أَبَدًا فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَصَبَّحَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ
فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ
الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً
وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلاَنِيَتَهُمْ
وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى جِئْتُ
فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ « تَعَالَ ». فَجِئْتُ
أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِى « مَا خَلَّفَكَ ». أَلَمْ تَكُنْ
قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى وَاللَّهِ لَوْ
جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّى سَأَخْرُجُ مِنْ
سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً وَلَكِنِّى وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ
لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّى لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ
أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ
إِنِّى لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِى عُذْرٌ وَاللَّهِ مَا
كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ
اللَّهُ فِيكَ ». فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِى فَقَالُوا
لِى وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا لَقَدْ عَجَزْتَ فِى
أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا اعْتَذَرَ
بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَكَ. قَالَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِى
حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأُكَذِّبَ
نَفْسِى – قَالَ – ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِىَ هَذَا مَعِى مِنْ أَحَدٍ قَالُوا
نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ
مَا قِيلَ لَكَ – قَالَ – قُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِىُّ
وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِىُّ – قَالَ – فَذَكَرُوا لِى رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ
قَدْ شِهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ – قَالَ – فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِى.
قَالَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا
أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ – قَالَ – فَاجْتَنَبَنَا
النَّاسُ – وَقَالَ – تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِى فِى نَفْسِىَ الأَرْضُ
فَمَا هِىَ بِالأَرْضِ الَّتِى أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً
فَأَمَّا صَاحِبَاىَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِى بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا
أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ
وَأَطُوفُ فِى الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِى أَحَدٌ وَآتِى رَسُولَ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِى مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَأَقُولُ
فِى نَفْسِى هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ ثُمَّ أُصَلِّى قَرِيبًا
مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِى نَظَرَ إِلَىَّ
وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّى حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَىَّ مِنْ
جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِى قَتَادَةَ
وَهُوَ ابْنُ عَمِّى وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ
مَا رَدَّ عَلَىَّ السَّلاَمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ
هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ
فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ
عَيْنَاىَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى فِى
سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِىٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ
يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ – قَالَ
– فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَىَّ حَتَّى جَاءَنِى فَدَفَعَ إِلَىَّ كِتَابًا
مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ
فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ
بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. قَالَ فَقُلْتُ حِينَ
قَرَأْتُهَا وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ. فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا
بِهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ
إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْتِينِى فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. قَالَ فَقُلْتُ
أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ قَالَ لاَ بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلاَ تَقْرَبَنَّهَا
– قَالَ – فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَىَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ – قَالَ – فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِى
الْحَقِى بِأَهْلِكِ فَكُونِى عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِى هَذَا الأَمْرِ
– قَالَ – فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- فَقَالَتْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ
لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ قَالَ « لاَ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ
». فَقَالَتْ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَىْءٍ وَوَاللَّهِ مَا زَالَ
يَبْكِى مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. قَالَ فَقَالَ
لِى بَعْضُ أَهْلِى لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى امْرَأَتِكَ
فَقَدْ أَذِنَ لاِمْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ – قَالَ – فَقُلْتُ
لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا يُدْرِينِى مَاذَا
يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا
رَجُلٌ شَابٌّ – قَالَ – فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ
لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِىَ عَنْ كَلاَمِنَا – قَالَ – ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ
صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ
عَلَى الْحَالِ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَىَّ
نَفْسِى وَضَاقَتْ عَلَىَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى
عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ – قَالَ
– فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. – قَالَ – فَآذَنَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى
صَلاَةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَىَّ مُبَشِّرُونَ
وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِى وَأَوْفَى الْجَبَلَ
فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِى الَّذِى سَمِعْتُ صَوْتَهُ
يُبَشِّرُنِى فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَىَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ وَاللَّهِ
مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ. فَلَبِسْتُهُمَا فَانْطَلَقْتُ
أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَلَقَّانِى النَّاسُ فَوْجًا
فَوْجًا يُهَنِّئُونِى بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ.
حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ
فِى الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ
حَتَّى صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ.
قَالَ فَكَانَ كَعْبٌ لاَ يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ
وَيَقُولُ « أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ
». قَالَ فَقُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَالَ
« لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ». وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا
سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ – قَالَ – وَكُنَّا نَعْرِفُ
ذَلِكَ – قَالَ – فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ
-صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمْسِكْ بَعْضَ
مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ». قَالَ فَقُلْتُ فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِىَ الَّذِى
بِخَيْبَرَ – قَالَ – وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِى
بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ
– قَالَ – فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ
فِى صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
إِلَى يَوْمِى هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِى اللَّهُ بِهِ وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ
كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِى
هَذَا وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِىَ اللَّهُ فِيمَا بَقِىَ. قَالَ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) حَتَّى بَلَغَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قَالَ كَعْبٌ وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَىَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ إِذْ هَدَانِى اللَّهُ لِلإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِى
نَفْسِى مِنْ صِدْقِى رَسُولَ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ
فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا
حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْىَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ وَقَالَ اللَّهُ ( سَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) قَالَ كَعْبٌ كُنَّا خُلِّفْنَا أَيُّهَا
الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ فَبِذَلِكَ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وَلَيْسَ
الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخَلُّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا
هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ
إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.

أقول : تأمل أخي هذه القصة المؤثرة معي فإن فيها مسائل

الأولى : هجر كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية مع ما لهم من
الجهود الدعوية العظيمة فإن كعباً ما تخلف عن غزوة قط ، إلا غزوة بدر وأما مرارة بن
الربيع فهو بدري كما ذكر ابن حجر في الإصابة ، وأهل بدر لهم من الفضل ما لا يخفى على
سني ، ومع أن له هذه المزية العظيمة لم يمنع ذلك من وقوع العقوبة عليه ، وكذلك هلال
بن أمية قد شهد بدراً أيضاً فهم ممن قيل لهم ( اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم ) ولم تكن
هذه الفضيلة مانعةً من وقوع العقوبة عليهم فكيف بمن هم دونهم .

الثانية : أن هؤلاء قد هجروا بخطأٍ واحدٍ فقط ، لما كان هذا الخطأ يستحق
ذلك فليست الأخطاء على رتبة واحدة حتى يقعد بعضهم قواعد تقول ( إذا أخطأ السلفي فعل
معه كذا وكذا ) ، بل لكل مقامٍ مقال

الثالثة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ هو بهجرهم حتى أمر المسلمين
بهجرهم .

 ولم يكتفِ بهذا حتى أمر بهجر زوجاتهم
لهم فإذا أمر عالمٌ محقق بهجر شخصٍ أو التحذير منه بناءً على ما صدر منه من انحرافات
لم يجز وصف ذلك بالأوامر العسكرية أو نحوها من الألفاظ .

الرابعة : أن المنافقين الذين كذبوا لم يهجروا ، وقد هجر المؤمنين ، وليس
هذا تناقضاً فإن المعين قد يقوم به وصفٌ يمنع من إقامة العقوبة عليه ، وهذا الوصف لا
يتوفر فيمن هو خيرٌ منه فتقام عليه العقوبة ، وهذا عند الكرابيسيين تناقض ، وعند أهل
السنة عين الفقه .

 ومن هذا الباب ما روي من أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يقم حد القذف على عبد الله بن أبي .

 وأقامه على بعض الصحابة وفيهم
بدريون ، فلا يجوز لمسلمٍ أن يحتج بهذا على تعطيل حد القذف.

 فإن هذه حادثة عين لا عموم لها
، وإنما يقاس عليها ما شابهها في عامة ملابستها وهذا أمرٌ لا يحسنه إلا العلماء ، ولكن
البقاء على الأصل وهو إمضاء العقوبة هو الذين يخاطب به ولاة الأمر ومن تحتهم من المسلمين
في كل زمان .

 وكذلك لا يجوز الطعن في هذا القضاء
، وقريبٌ منه عدم قتل ذي الخويصرة التميمي ، مع الأمر بقتال الخوارج الذين خرجوا من
تحت لوائه ، فإن لنا الأمر النبوي الذي خوطبنا به .

 وأقضية النبي صلى الله عليه وسلم
كلها صادرةٍ عن حكمةٍ بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها ، ومن منع من رد خطأ السلفي
قاسه على المنافق ! ، ولو قاسه على أهل الإيمان لكان أمشى مع أصول الاستدلال

وقريب من هذا الباب التفريق السلفي بين أخطاء الولاة وأخطاء الدعاة

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (20/ 103) :” الوجه السابع
: أن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع فان النبى صلى الله عليه
و سلم أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم وقال في الذي يشرب الخمر لا تلعنه
فانه يحب الله ورسوله وقال في ذي الخويصرة يخرج من ضئضىء هذا أقوام يقرأون القرآن لا
يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين وفي رواية من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية يحقر
أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم أينما لقيتموهم فاقتلوهم
فان في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة “

فإذا سكتنا عن الولاة إذا غلطوا واتبعنا الطرق الشرعية في نصحهم، وتكلمنا
في أخطاء المنتسبين للعلم ، وحذرنا الناس من ذلك كان هذا هو عين الإتباع ولا تناقض
فيه .

الخامسة : أن هؤلاء الثلاثة لم يؤثر عنهم تخذيل عن الجهاد ، وغاية ما فعلوه
أنهم تخلفوا عنه ، فكيف بالمخذل ؟!

والمتتبع في السنة يجد أمثلةً كثيرةً على ما ذكرت ، وإنما أردت مثالٍ واحد
للإيقاظ ، وما أريد الإطالة

ثم أود ذكر أمثلةٍ من صنيع السلف مع أقوامٍ لهم جهودٌ دعوية عظيمة في خدمة
الإسلام ، ثم وقع منهم ما أوجب التحذير منهم ، فلم يكن ذلك مانعاً لعلماء السلف من
الحكم عليهم بما يستحقون من العقوبة

قال المزي في ترجمة شبابة بن سوار من تهذيب الكمال (12/ 343) :” قال
أحمد بن أَبي يحيى : سمعت أحمد بن حنبل وذكر شبابة ، فقال : تركته ، لم أكتب عنه للارجاء
، فقيل له : يا أبا عَبد الله ، وأبو معاوية ؟ فقال : شبابة كان داعية “

أقول : شبابة بن سوار من رجال الستة ، وقد روى مئات الأحاديث ، وهذه خدمة
عظيمة للإسلام ، ولم يمنع ذلك الإمام أحمد وهو الإمام القدوة ، من التصريح بأنه تركه

وتأمل استشكال من أورد على أحمد روايته عن أبي معاوية ، فهو من جنس قولهم
اليوم ( رددتم على فلان فلم لا تردون على فلان ) ، فبين له أحمد الفرق وهذا أمرٌ يحسنه
العلماء وهو الجامع والفارق ، ولا يحسنه الجهلة فيقع منهم اتهام العلماء بالتناقض
.

وقال المزي في تهذيب الكمال في ترجمة علي بن الجعد (20/ 348) :” وَقَال
أبو جعفر العقيلي : قلت لعَبد الله بن أحمد بن حنبل : لم لم تكتب عن علي بن الجعد ؟
فقال نهاني أبي أن أذهب إليه ، وكان يبلغه عنه أنه يتناول أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم”

أقول : وعلي بن الجعد ثقة ثبت من رجال الستة ، وهو شيخ أحمد وابن معين
، ولم يرو عنه أحمد حديثاً واحداً في المسند ، مع ما له من العلم غير أنه اشتمل على
غير بدعة

وقال المزي في ترجمة إسحاق بن أبي إسرائيل من تهذيب الكمال (2/ 402)
:” وَقَال أبو سَعِيد عثمان بن سَعِيد الدارمي : سمعت يحيى ابن مَعِين يقول :
إسحاق بن أَبي إسرائيل ثقة.

قال أبو سَعِيد : إسحاق بن أَبي إسرائيل ، لم يكن أظهر الوقف ، حين سألت
يحيى بن مَعِين عنه ، وهذه الاشياء التي ظهرت عليه بعد ، ويوم كتبنا عنه كان مستورا
عنه “

أقول : تأمل تنبيه الدارمي على أنه لما أثنى عليه ابن معين لم يكن أظهر
الوقف ، أي أنه لو أدركه وقد أظهر الوقف لما أثنى عليه ، وهكذا ينبغي أن يعتذر لأهل
العلم الأفاضل في ثنائهم على بعض المخالفين – قبل أن يظهروا مخالفاتهم –  ، وأما من استبان عناده وذبه عن أهل البدع مع علمه
بحالهم فهذا يعاقب ولا كرامة

وقال المزي في الترجمة عينها :” وَقَال زكريا بن يحيى الساجي : تركوه
لموضع الوقف: وكان صدوقا “

أقول : بل هو ثقة ثبت ، ولكنهم تركوا حديثه إخماداً لذكره ، مع ما له من
السعة الحفظ والرواية

وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/409) :” إسحاق بن إبراهيم
بن أبي اسرائيل روى عن حماد بن زيد وجعفر بن سليمان وعبد الواحد بن زياد سمعت أبي يقول
ذلك ويقول كتبت عنه فوقف في القرآن فوقفنا عن حديثه وقد تركه الناس حتى كنت أمر بمسجده
وهو وحيد لا يقربه احد بعد أن كان الناس إليه عنقا واحدا “

أقول : فانظر كيف هجره الناس مع ما له من العلم والفضل لما أظهر القول
بالوقف والطعن على أهل السنة

وقال ابن بطة في الشرح والإبانة عن أصول الديانة ص218 :” وَلَا تُشَاوَرْ
أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اَلْبِدَعِ فِي دِينِكَ, وَلَا تُرَافِقْهُ فِي سَفَرِكَ وَإِنْ
أَمْكَنَكَ أَنْ لَا تُقَارِبَهُ فِي جِوَارِكَ. وَمِنْ اَلسُّنَّةِ مُجَانَبَةُ كُلَّ
مَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَهُجْرَانُهُ وَالْمَقْتُ لَهُ, وهُجْرَانُ
مَنْ وَالَاهُ وَنَصْرَهُ وَذَبَّ عَنْهُ وَصَاحَبَهُ وَإنْ كَانَ اَلْفَاعِلُ لِذَلِكَ
يُظْهِرُ اَلسُّنَّةَ “

فتأمل إيجابه لعقوبة من يذب عن أهل البدع وإن كانت ( أصوله سلفية ) كما
يقال اليوم

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم