فهذه إفادة مختصرة في مسألة المسافر التي
تقصر بها الصلاة إذ حصل خلافٌ طويل بين أهل العلم في هذه المسألة وقد أرجع جماعة
من أهل العلم المتأخرين ذلك للعرف فما سماه الناس سفراً فهو السفر الذي يحق
للمسافر أن يترخص فيه برخص السفر
وهذا مذهبٌ حسن لولا أنه قد ورد عن بعض
الصحابة ما يخالفه وخالف الإجماع القديم
قال عبد الرزاق في المصنف 4295 عن مالك عن
نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر فيه الصلاة
قلت: وهذا الخبر في الموطأ وإسناده
كالشمس، فانظر رحمني الله وإياك كيف أن نافعاً سمى صنيع ابن عمر (سفراً) مما يدل
على أنه في العرف عندهم سفر ومع ذلك لم يترخص برخص السفر مما يدل على أن الأمر
عنده مرتبط عندهم بالمسافة
وما هي المسافة التي يقصر فيها؟
قال عبد الرزاق 4296 عن ابن جريج عن عطاء
قال: سألت ابن عباس فقلت: أقصر الصلاة إلى عرفة أو إلى منى؟ قال: لا، ولكن إلى
الطائف، وإلى جدة، ولا تقصروا الصلاة إلا في اليوم التام، ولا تقصر فيما دون
اليوم، فإن ذهبت إلى الطائف أو إلى جدة أو إلى قدر ذلك من الارض، إلى أرض لك أو
ماشية فاقصر الصلاة، فإذا قدمت فأوف
قلت: تأمل قوله ( ولا تقصروا الصلاة إلا في اليوم التام ) إذ مفهومه أن مسيرة
أقل من يوم لا يقصر فيها
وقد ورد هذا القول عن ابن عباس من طريق
آخر
قال عبد الرزاق 4299 عن الثوري عن منصور
عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا سافرت يوما إلى العشاء فأتم الصلاة، فإن زدت فاقصر
وقد جاء في تهذيب الآثار (3/ 314) أن
المسافة بين مكة والطائف مسيرة يومان وجدة أقرب مكة من الطائف فيكون ابن عباس يرى
القصر في أقل من مسيرة يومين وهي أربعة برد وهذا يلتقي مع قوله بالقصر في مسيرة
يوم وليلة
قال ابن جرير في تهذيب الآثار
1040 – حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إدريس،
عن الشيباني، عن عكرمة، أراه عن ابن عباس، قال: «تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة»
وقال أيضاً 1156 – حدثنا ابن المثنى،
حدثني عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن شبيل الضبعي، عن أبي حبرة، قال: سألت ابن عباس،
فقلت: «أقصر الصلاة إلى الأبلة؟ قال: تذهب وترجع من يومك؟ قلت: نعم قال: لا، إلا
يوما تاما إلى الليل»
وقد نسب ابن المنذر القول بقصر الصلاة في
يوم تام لابن عباس ورجحه في الأوسط (4/ 348)، وهذا يبين غلط من نسب لابن عباس
القول بتحديد المسافة في يومين
وقد التقى هذا التوجيه القولي من ابن عباس
مع التطبيق العملي لعبد الله بن عمر
قال عبد الرزاق 4300 عن معمر وابن جريج عن
الزهري قال: أخبرني سالم أن ابن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم
وقد جاء عن ابن عمر ما يعضد هذا وهو أنه
قصر في أقل من أربعة برد
قال عبد الرزاق 4301 عن مالك عن ابن شهاب
عن سالم أن ابن عمر سافر إلى ريم فقصر الصلاة وهي مسيرة ثلاثين ميلا
قلت: والبريد 12 ميلاً كما قال الإمام
أحمد في مسائل ابنه عبد الله ص117 فتكون البرد الأربعة48 ميلاً وعليه فهذه أقل من
مسيرة يومين وهي أربعة برد فيكون ال30 ميلاً أقل من يومين
وقد جاء عن ابن عمر ما يخالف ذلك مخالفةً
صريحة
قال ابن جرير في تهذيب الآثار 1020حدثنا
ابن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد، حدثنا خصيف، قال: حدثني نافع، قال: «سافرت مع
عبد الله إلى مسيرة يوم وليلة، فلم يقصر الصلاة، وسافرت معه إلى مسيرة ثلاث فقصر
الصلاة»
قلت: خصيف هذا فيه كلام فلا يقوى على
المخالفة وقد تقدم أن ابن عمر كان لا يقصر فيما هو أقل من ذلك فإن البريد مسافة
نصف يوم كما أوضح ابن عثيمين في الشرح الممتع
غير أنه ورد عن ابن عمر ما يخالف هذا
مخالفةً غير صريحة
قال ابن جرير في تهذيب الآثار
1021 – حدثنا محمد بن عبد الأعلى
الصنعاني، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن سالم: «أن
عبد الله كان يقصر الصلاة في مسيرة ليلتين»
قلت: هذا لا يتنافى مع قصره في أقل من ذلك
وقال ابن جرير 1023 – حدثنا ابن المثنى،
حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن سالم، قال: «أوفى ما حفظت
من ابن عمر أنه قصر الصلاة في أربعة برد»
قلت: هذا قد يتعارض مع الأثر السابق إذا
قلنا أن البرد الأربعة مسيرة يومين كما هو مشهور غير أن ابن حجر قد جمع
بجمعٍ جيد بين هذه الآثار الواردة عن ابن عمر
قال ابن حجر في شرح البخاري (2/ 568):”
ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن مسافة أربعة برد يمكن سيرها في يوم وليلة “
قلت: هذا هو الأقوى فتحديد البريد بنصف
اليوم ليس محل اتفاق بل بعضهم جعل البرد الأربعة مسيرة يوم وليلة أي أن البريد
مسيرة ربع يوم وهذا عليه جماعة من المالكية انظر الجامع للقرطبي (5/ 354) وقويت
هذا لأن فيه جمعاً بين النصوص الواردة عن ابن عمر
غير أنه قد ورد عن ابن عمر ما يخالف هذا
كله
قال ابن حجر في شرح البخاري (2/ 568):”
وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر عن محارب سمعت ابن عمر يقول إني لأسافر الساعة
من النهار فأقصر وقال الثوري سمعت جبلة بن سحيم سمعت بن عمر يقول لو خرجت ميلا
قصرت الصلاة إسناد كل منهما صحيح وهذه أقوال متغايرة جداً “
قلت: وما تقدم أولى بالإتباع لأن فيه
موافقةً للمروي عن ابن عباس وهو رواية خاصة ابن عمر مولاه نافع وابنه سالم
ولا أعلم مخالفاً لهما من الصحابة وأما
ورد عن علي بن أبي طالب في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 331) في قصره في أقل من ذلك
فضعيف جداً في سنده جويبر وهو متروك
قال ابن عثيمين في الشرح الممتع:”
والبرد: جمع بريد، والبريد نصف يوم وسمي بريدا، لأنه فيما سبق كانوا إذا أرادوا
المراسلات السريعة يجعلونها في البريد، فيرتبون بين كل نصف يوم مستقرا ومستراحا
يكون فيه خيل إذا وصل صاحب الفرس الأول إلى هذا المكان نزل عن الفرس لتستريح، وركب
فرسا آخر إلى مسيرة نصف يوم، فيجد بعد مسيرة نصف يوم مستراحا آخر فيه خيل ينزل عن
الفرس التي كان راكبها ثم يركب آخر، وهكذا لأن هذا أسرع وفي الرجوع بالعكس،
فالبريد عندهم مسيرة نصف يوم فتكون أربعة البرد يومين، وقدروه بالمساحة الأرضية
بأربعة فراسخ، فتكون أربعة برد ستة عشر فرسخا، والفرسخ قدروه بثلاثة أميال، فتكون
ثمانية وأربعين ميلا، هذا هو مسافة القصر فهو مقدر بالمسافة، والميل المعروف = كيلو
وستمائة متر.
وأما في الزمن فقالوا: إن مسيرته يومان
قاصدان بسير الإبل المحملة”
قلت: فعلى هذا الحساب تكون البرد الأربعة 76.8
كيلو، فهذه مسيرة اليومين واليوم نصفه 38.4 كيلو، فهذه المسافة التي ورد عن
الصحابة القصر فيها وهذا القول فيه تيسير شديد غير أن الأصح ما ذكرته عن الحافظ في
أنه لا تعارض بين مسيرة البرد الأربعة ومسيرة يوم وليلة فتكون البرد الأربعة مسيرة
(76،8)
وقد خولف ابن عثيمين في هذا التقدير
قال وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الحنبلي
وأدلته (1/ 361):” والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال هاشمية مجموعها
ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية والهاشمي اثنا عشر ألف قدم، ستة آلاف ذراع أربعة آلاف
خطوة والذراع أربعة وعشرون إصبعاً معترضة معتدلة كل إصبع ست حبات شعير بطون بعضها
إلى بعض عرض كل شعيرة ست شعرات برذون
والذراع 54 سم والميل الهاشمي (3240م) والفرسخ
(9720م) والبريد (38880 م) فتكون مسافة القصر (154كم) تقريباً ولكن في القاموس: الميل
أربعة آلاف ذراع فتكون مسافة القصر (103كم) تقريباً وهذا أولى “
قلت: فعلى هذا التقدير تكون مسيرة اليوم
والليلة 51.5 كم
وحدد الحبيب بن طاهر في كتابه الفقه
المالكي وأدلته (1/ 315) مسافة القصر 77.66 كم
وحدد عبد الكريم النملة مسافة القصر ب (82)
كم في كتابه تيسير الفقه (1/ 666)
وهؤلاء الثلاثة لا تحمد طريقتهم في
المعتقد غير أن المسألة تحديد عصري
وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ومقدار
المسافة المبيحة للقصر ثمانون كيلو متر تقريباً على رأي جمهور العلماء) السؤال
السابع من الفتوى رقم (6261) المجلد الثامن
وهذا أولاها جميعاً والله أعلم
وهنا دفع اعتراض لبعض الأخوة :
قد احتج بهذين الأثرين الإمام أحمد وبنى
عليهما مذهبه في المسألة كما في مسائل ابنه عبد الله
وأما تخصيص القرآن بفتاوى الصحابة التي
اتفقوا عليها فهذا لا إشكال فيه وهذا مسلك الأئمة الكبار فالصحابة أعلم الناس
بالقرآن والسنة ولا يقيدون المطلق بالهوى
وأما حديث كان يقصر في مسافة ثلاثة أميال
أو فراسح
فهذا الحديث تأوله بعض الناس على أنه
لبيان وقت القصر
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر
سفراً طويلاً يبدأ فيه بالقصر عند ثلاثة أميال بعد مفارقة بنيان البلد
ويؤيد هذا التوجيه أن جمعاً من السلف نصوا
على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسافر إلا في حج أو جهاد
ولا نعرف غزوةً سافر بها النبي صلى الله
عليه وسلم هذا السفر القصير
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم