إفادة علمية في مسألة تكفير الطائفة الممتنعة
الطائفة الممتنعة هي الطائفة التي تترك شعيرة من شعائر الإسلام ثم تقاتل على ذلك، وأظهر مثال على ذلك المرتدون في زمن أبي بكر الصديق، إذ لم يكونوا كلهم اتَّبعوا أنبياء جدد أو جحدوا وجوب الزكاة، بل منهم من بخل بالزكاة وقاتل على ذلك.
ومع تسمية الصحابة للعامة من هؤلاء “مرتدين”، إلا إن طائفة الباخلين المقاتلين من غير الجاحدين اختلف العلماء في كونهم ارتدوا حقيقة.
فقد ذهب الشافعي وتبِعَه جماهير أتباع المذاهب من المتأخرين إلى أن ردة هؤلاء لم تكن الردة الكبرى، بل هي ردة صغرى مع بقاء أصل الإسلام لهم، وأن ذكر الردة في أخبار الصحابة من باب التغليب اللفظي، كالوارد في حديث الحوض “إنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ علَى أدْبارِهِمُ القَهْقَرَى”، ثم ذكر عنهم “فلا أُراهُ يَخْلُصُ منهمْ إلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ”، فعُلِم أن الردة المذكورة ليست الردة الكبرى، فالمرتد ردة حقيقية كبرى لا ينجو أبدًا.
واحتجوا بعِدة حجج لهذا القول:
الحجة الأولى: ما أورده الإمام الشافعي، أنهم قالوا للصديق بعد الإسار: “ما كفرنا بعد إيماننا، ولكن شححنا على أموالنا”.
وهذا الأثر هو عمدتهم، ووجه الحجة فيه أنهم نفوا عن أنفسهم الكفر وما تعقَّبهم الصديق بشيء.
الحجة الثانية: قالوا لو كانوا كفارًا ما ناظر عمر أبا بكر فيهم.
وقالوا أيضًا إن قول أبي بكر “تشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار” إنما قاله لوفد بزاخة وهم أسد وغطفان، وهؤلاء اتبعوا طليحة الأسدي حين ادعى النبوة، لذا هذا خارج بحثنا.
ومن يتأمَّل هذا السبك للحجج يجده قويًّا، غير أن فيه نظرًا كله!
فالخبر الذي احتجَّ به الإمام الشافعي ما وجدت له إسنادًا بعد طول البحث، وما وجدت أحدًا ذكر له إسنادًا.
فإن قيل: ألا يُتسامح في مرسل السيرة هنا خصوصًا وصاحب المرسل إمام؟
فيقال: نحن هنا في مقام احتجاج فقهي، وقد خالفه أئمة غيره كما سيأتي. وقد ورد في مراسيل من هُم أقرب طبقة للصديق ما يقوِّي قول المكفرين.
قال ابن أبي شيبة في المصنف 29548- “حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لما ارتد من ارتد على عهد أبي بكر، أراد أبو بكر أن يجاهدهم، فقال عمر: أتقاتلهم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، حرم ماله إلا بحق، وحسابهم على الله تعالى؟ فقال أبو بكر: أَنَّى لا أقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لأقاتلن من فرق بينهما حتى أجمعهما، قال عمر: فقاتلنا معه فكان رشدا، فلما ظفر بمن ظفر به منهم، قال: اختاروا مني خصلتين؛ إما حرب مجلية، وإما الخطة المخزية. قالوا: هذه الحرب المجلية قد عرفناها، فما الخطة المخزية؟ قال: تشهدون على قتلانا أنهم في الجنة، وعلى قتلاكم أنهم في النار، ففعلوا”.
فهذا الخبر فيه أن الصديق نصَّ على أن قتلاهم في النار وكان يعني مانعي الزكاة. نعم، سفيان بن حسين في روايته عن الزهري ضعف، والخبر مرسل، ولكن يبقى هذا أقوى من مرسل يرسله الإمام الشافعي، كما أنه اعتضد بغيره.
قال ابن أبي شيبة في المصنف 33399- “حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، قال: ارتد علقمة بن علاثة عن دينه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتله المسلمون، قال: فأبى أن يجنح للسلم، فقال أبو بكر: لا يقبل منك إلا سلم مخزية، أو حرب مجلية، قال، فقال: وما سلم مخزية، قال: تشهدون على قتلانا أنهم في الجنة، وأن قتلاكم في النار، وتدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، فاختاروا سلمًا مخزية”.
وهذا أيضًا مرسل فيه ضعف، ولكن يبقى أحسن حالًا من مرسل الإمام الشافعي.
وفِي تفسير الطبري في مرسل قتادة: “ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون -وهي الزكاة- صغرة أقمياء. فأتته وفود العرب، فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية. فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقروا: أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال”.
وهذه المراسيل الثلاثة تُعارض ما رواه الشافعي، وهي أقوى من خبره، ومجرد تضعيف خبره يُبقينا على الأصل أنهم مرتدون، ولا نحتاج لهذه المراسيل أصلًا.
وما ذكر في شأن وفد بزاخة إنما اعتمد فيه على روايات الإخباريين المطعون فيهم، غير أنه لا توجد عندنا رواية أخرى في شأنهم، لذا يقبل الأمر مع قرينة أن طليحة أسدي ووفد بزاخة فيهم قبيلة أسد فهذه قرينة تقوِّي الرواية المشار إليه.
وأما الاحتجاج بمجادلة عمر، فاحتجاج ضعيف، وذلك أن مناط التكفير عند من يكفر ليس منع الزكاة فحسب، وإنما منع الزكاة والمقاتلة على ذلك أيضًا، لذا اسم الكفر ما وقع عليهم قبل القتال، وفِي تلك الحال كان عمر يجادل عنهم.
ومع ذلك فقد قال ابن أبي شيبة في المصنف 33404- “حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن ابن أبي مليكة ، قال: قال عمر: والذي نفسي بيده لو أطاعنا أبو بكر لكفرنا في صبيحة واحدة، إذ سألوا التخفيف من الزكاة، فأبى عليهم، وقال: لو منعوني عقالًا لجاهدتهم”.
ورجاله ثقات غير أن ابن أبي مليكة ما أدرك عمر، وإن كان عامة أشياخه من الصحابة.
قال الخلال في أحكام الملل 1426- “أخبرني الميموني، قال: قلت: يا أبا عبد الله، من منع الزكاة يقاتل؟ قال: قد قاتلهم أبو بكر، رضي الله عنه، قلت: فيورث ويصلى عليه؟ قال: إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر، وقاتلوا عليها لم يورث، ولم يصل عليه.
فإذا كان الرجل يمنع الزكاة، يعني: من بخل، أو تهاون، لم يقاتل، ولم يحارب على المنع، ويورث ويصلى عليه، حتى يكون يدفع عنها بالخروج والقتال، كما فعل أولئك بأبي بكر، فيكون حينئذ يحارب على منعها، ولا يورث، ولا يصلى”.
وهذا يؤكِّد أن مناط التكفير بالحراب مع المنع بِمَا يبطل الاحتجاج بمجادلة عمر.
وممن اختار التكفير أبو عبيد القاسم بن سلام، ومن المتأخرين ابن تيمية.
والمسألة نزاعية بين أهل السنة كما ترى، وقد توهَّم بعض المتأخرين أن القول بعدم التكفير من أقاويل المرجئة، وليس هذا دقيقًا، وإن كان المتأثر بالإرجاء من المتأخرين سيميل للقول بعدم التكفير، وقد يلتقي السني والبدعي بقول، ويكون لكل منهما مقدمته المستقلة.
وقد استدل بعض المعاصرين ممن يذهب لكفر تارك الصلاة ولا يذهب لكفر الطائفة الممتنعة (وهؤلاء قلة) لمذهبه بأثر عبد الله بن شقيق: “كانوا لا يَرَوْن شيئا تركه كفر إلا الصلاة”.
وواضح أن أثر عبد الله بن شقيق يتكلم عن الترك المجرد، وأما الامتناع فترك مع قتال (وفِي عدد من روايات أحمد يذكر القتال للعادل، ولعل أحمد يقصد ألا يكون الإمام غصب منهم مالًا بالباطل فامتنعوا عن الزكاة لذلك، فيكون ظلمًا في وجه ظلم، فلا يصل لحقيقة المحادة للشرع)، ولا يخفى أن ترك الزكاة مع القتال على ذلك أبلغ من ترك الصلاة المجرد، وهذا أمر أوضح من أن يُشرح.