أمجاد الأمة لم يصنعها المتأخرون من الأشعرية !
هذا المنشور موجه لفئة معينة، وقبل الدخول في الأمر أود التنبيه على أنني أركز على متأخري الأشعرية الذين ينكرون العلو لأن هذه هي أعظم بدعة كلامية في ميزان السلف، وقد هزني قديمًا قول ابن تيمية أنَّ السلف ذموا منكر العلو بأكثر مما ذموا به الرافضة والقدرية والخوارج والمرجئة، وهي من أخطر الأمور على القلب لأنه إذا خلا من التوجه إلى الله كان كمن عطَّل وجودَه، فالقلوب لا تأله إلا لمن تتجه له، ولعل هذا سر فشوِّ التعلق بالأولياء في القوم -والله المستعان- لأن الأولياء يُتجه إليهم بخلاف رب العالمين عندهم فإنهم لا يتجهون للعلو عند الكلام عنه إلا على جهة غلبة الفطرة عليهم.
وعلينا أن نتفق أن الأشعرية الْيَوْم بتراء، بمعنى أنه دخلها دواخل لو أدركها كثير من الأشعرية الأوائل لأنكروها، فاليوم ظهر فيهم التسامح مع العلمنة المتوسطة، والتوسع الشديد في تعظيم القبور (وإن كان لهذا أصل في المتأخرين عندهم)، مع كثرة تعظيم أصحاب وحدة الوجود أمثال ابن عربي، وانتشار الانحراف عن بعض الصحابة مثل معاوية، وظهور التشيع المتوسط في كثير منهم في تفضيل علي بن أبي طالب، مع حال الحضرات والرقص وغيره، نعم فيهم من ينكر هذا ولكن لا أعرف أحدًا منهم سالمًا من مجموع هذه الأمور.
كثير من الناس يتكلمون عن أمجاد الأمة وإذا سألته ما هي هذه الأمجاد يكلمك عن الفتوحات.
وبغض النظر عن كوْن الفتوحات على عظمتِها جزءًا فحسب من أمجاد الأمة وإلا فالأمة أعظم ما صنعت نشرُ التوحيد في الناس بفتوحات عظيمة أو بغيرها، وكذلك حفاظها على الصورة الأصلية من دينها بالرغم من المُحدَثات (هذا أعظم مجد من وجهة نظري) فأهل الكتاب ضيَّعوا دينَهم تمامًا.
ولكن لنقف عند هذا المعنى، الفتوحات أصلها في عصر الصحابة والأمويين وجزء من عصر العباسيين ثم صار الأمر ضعيفًا.
ومعلوم أن القرون الأولى ما كان يقود فيها الناسَ أهلُ الكلام، قد يوجد في القادة في زمن الأمويين من فيه انحراف عقدي ولكن لا يصل إلى مستوى أهل الكلام القائلين بإنكار العلو أو إنكار الأفعال الاختيارية لله عز وجل.
وحتى في الأزمنة المتأخرة عامة الفتوحات ليس لمن هُم على عقيدة المتكلمين الفضل التام فيها.
فإن قلت: كيف هذا؟
فأقول لك: عامة الفتوحات يقاتل فيها عوام المسلمين وكثير من خواصهم، والأشاعرة معترفون أن عوام المسلمين ليسوا على عقيدتهم.
قال أبو إسماعيل الأنصاري في ذم الكلام (5/140) واصفًا حال الأشاعرة: “وأبطلوا التقليد فكفَّروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفَّروا السلف.“
قال الغزالي في الإحياء (4/434): “أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل به ولا هو منفصل عنه، قد حيَّر عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته“
وقال العز بن عبد السلام قوله في القواعد ص (201): “أن من جملة العقائد التي لا تستطيع العامة فهمها هو أنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا منفصل عن العالم ولا متصل به“.
وقال القرطبي في تفسيره: “وهذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق، لأن أكثرهم لا يعرفون حقيقة المعرفة والنظر والاستدلال. فلو قلنا: إن أول الواجبات المعرفة بالله لأدى إلى تكفير الجم الغفير والعدد الكثير، وألا يدخل الجنة إلا آحاد الناس، وذلك بعيد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع بأن أكثر أهل الجنة أمته، وأن أمم الأنبياء كلهم صف واحد وأمته ثمانون صفًّا. وهذا بيِّن لا إشكال فيه. والحمد لله. الثالثة- ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر، فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه. وقد أُورد على بعضهم هذا فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار“.
وقال التفتازاني:
“فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك من غير أن يقع في موضع واحد تصريح بنفي ذلك؟ أجيب بأنه: لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة؛ كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى إصلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرًا في التشبيه” [شرح المقاصد 2/50].
وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي 9/86 :
“من ثم قيل أخذًا من حديث الجارية: يغتفر نحو التجسيم والجهة في حق العوام؛ لأنهم مع ذلك على غاية من اعتقاد التنزيه والكمال المطلق“. اهـ
قال السنوسي في: (شرح أم البراهين ص 86) : “وأما العامة فأكثرهم ممن لا يعتني بحضور مجالس العلماء، ومخالطة أهل الخير، يتحقق منهم اعتقاد التجسيم والجهة، وتأثير الطبيعة –القول بالأسباب–، وكون أفعال الله تعالى معللة لغرض، وكون كلامه جل وعلا حرفًا وصوتًا، ومرة يتكلم ومرة يسكت، كسائر البشر، ونحو ذلك من اعتقادات أهل الباطل، وبعض اعتقاداتهم أجمع العلماء على كفر معتقدها“. اهـ
أقول: خلاصة هذه الاعترافات كلها أن عقيدتهم لا يعتقدها جماهير عوام الناس، وبالتالي المجاهدون في كل زمان غالبهم ليسوا على عقيدتهم المنحرفة إذ عامتهم من عوام الناس.
وتنبيه: الأصل في أي إنسان في الأمة أنه على غير هذه العقيدة حتى يخطَّ ببنانه ما يوافقها، حتى أن بعض من ينسبونه للأشعرية تجده يثبت العلو في تصانيفه أو يقر من يثبت كالخطابي وابن الصلاح وغيرهم.
والعجيب الْيَوْم بعض المساكين عكسوا المسألة وجعلوا التشنيع على هذا القول الكلامي تشنيعًا على عوام المسلمين! وأن قائله سينتهي بتكفير نفسه! أو سينتهي إلى استحلال دماء المسلمين.. إلى آخر تلك الخرافات التي تُضحك الثكلى وتبيِّن لك المستوى العلمي والعقلي لهؤلاء، فما علاقة ذم منكر العلو والقائل بخلق القرآن بهذه النتائج! والتكفير لا يُذمُّ لذاته ولكن المذموم صنيع أهل الكلام إذ يأتون لمن يُؤْمِن بظواهر النصوص والفطرة ويقولون بأنه وقع في الكفر وأحسنهم طريقة من يقول: هو معفوٌّ عنه لجهله.
وبعضهم يذكر في أمجاد الأمة العلماء التجريبيين، ومع اعتراضي الشديد على هذا المعيار إلا أنه أيضا لا يفيد أهل الكلام.
فالتجريبيون المشاهير المتكلَّم في عقائدهم مثل ابن سينا والرازي وجابر بن حيان وابن رشد ما كانوا أشاعرة اتفاقًا، بل هذا الأخير يكفِّرهم.
وأما التجريبيون المشاهير الذين لم يتكلم الناس في عقائدهم كالبيروني والخوارزمي وابن النفيس والزهراوي وابن البيطار وغيرهم كثير فما كانوا أشاعرة ولا معتزلة.
وبعضهم يذكر الأولياء أصحاب الكرامات ويحبهم، وهذا كتاب كرامات الأولياء للالكائي وحلية الأولياء لأبي نعيم ذكروا الكثير جدًّا من الأولياء ما فيهم متكلم واحد لا أشعري ولا معتزلي، وهذا السلمي صاحب طبقات الصوفية كان يلعن الكلابية (أسلاف الأشعرية).
وقال ابن تيمية في الاستقامة: “وكذلك حدثني الشيخ أبو الحسن بن غانم أنه سمع خاله الشيخ إبراهيم بن عبد الله الأرومي أنه كان له معلم يُقرئه، وأنه أقرأه اعتقاد الأشعرية المتأخرين، قال فكنت أكرر عليه فسمع والذي والشيخ عبد الله الارميني قال فقال ما هذا يا إبراهيم فقلت هذا علمنيه الأستاذ فقال يا إبراهيم اترك هذا فقد طُفت الأرض واجتمعت بكذا وكذا ولي لله فلم أجد أحدًا منهم على هذا الاعتقاد، وإنما وجدته على اعتقاد هؤلاء وأشار إلى جيرانه أهل الحديث والسنة من المقادسة الصالحين إذ ذاك“.
أقول: فعامة المجاهدين وعامة الناس وعامة الأولياء وعامة التجريبيين ليسوا منهم، وعقيدتهم ليست عقيدة الصحابة ولا الأئمة المتبوعين في الفقه والحنابلة طرا ليسوا على عقيدتهم إلا شيئًا يسيرًا، والحنابلة ينسبون لإمامهم التكفير بمقالة الأشعرية أو التضليل بها، بيْد أن متأخري الأشعرية لا ينبل منهم أحد إلا باتباع إمام مشهور في الفقه من أهل الحديث أو حتى أهل الرأي، ولا يجرؤ أحد منهم على نسبة عقيدته له، ورواة الحديث في الكتب الستة مصادر الإسلام الأصلية ما فيهم جهمي واحد يقول القرآن مخلوق صراحةً، فضلا عن إنكار العلو، وأضف إلى ذلك مشاهير الشعراء والأدباء ستجد حصتهم في ذلك ضعيفةً مقارنةً بحصة العامة الذين على اعتقاد أهل الحديث أو المعتزلة أو الفلاسفة أو الشيعة.
زيادةً على أن متقدميهم يُثبتون العلو وشرحت في مقال سابق بطلان دعوى أنهم أكثر علماء الأمة في العلوم الشرعية تفصيليًّا، وأن النتاج العلمي في الأزمنة المتأخرة مشتركٌ بين كل الفرق، ولكن الكل عالة على متقدمي أهل الحديث، وشرحت في مقال أسبق كذبة أن أسانيد العلوم كلها تمرُّ بهم، وبينت العكس وأنهم أحوج الناس إلى أسانيد غيرهم، وبهذا يتم إبطال التهويل المتعلق بشأن القوم والحكم عليهم ومعالجة المقدمة العاطفية البائسة التي ضيعت البحث العلمي، هذا على مقاييس الآخرين وأما على مقياسي فالأمر لا يحتاج إلى كل هذا.