أسئلة علمية موجهة للذين يقولون أن الأشاعرة يوافقون الجهمية أو ينطبق عليهم كلام السلف في الجهمية ولكن لا يجوز تكفيرهم.
هنا جماعة من طلبة العلم يعترفون بأن الأشاعرة قائلون بخلق القرآن ويعترفون أيضًا أن السلف أطلقوا التجهيم والتكفير في قائل هذه المقالة، ويقولون إن الأشاعرة قائلون بإنكار العلو وكذلك السلف أطلقوا التكفير في منكره، والأمر نفسه في موقف الأشاعرة من مسألة الإيمان.
ولكنهم بعد ذلك يقولون أنه لا يجوز الحكم على أعيانهم بذلك وأن هذا حكم عام، ويتحدثون عن التفريق بين الإطلاق والتعيين، ولا يقف الأمر عند هذا، ولو وقف لهان، ولكنه يمتد إلى التشنيع الشديد على من يخالف تقريرهم هذا ويأخذ بالإطلاقات.
علمًا أن الإطلاقات لا مفر منها فهي تقول: من قال القرآن مخلوق فهو جهمي والجهمي كافر، أو نحوها من الألفاظ، وهي من ألفاظ العموم، ودخول الاستثناء لا ينفي الحكم الأصل.
وهنا عدة أسئلة لهم توضح موطن الإشكال وتقرب البحث للأذهان:
السؤال الأول: ما حكم من يكفر الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي (وهذا قوله أهون من قول الجهمية) وبشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وابن أبي دؤاد وغيرهم؟ هل يُنكَر عليه أم لا يُنكَر؟
فإن أنكروا فقد أنكروا على السلف، وإن لم ينكروا يقال فأين ذهبت قاعدة الإطلاق والتعيين؟ إذن هي لزامًا لا تعني عدم تكفير كل الأعيان، ثم ما الفرق بين رؤوس الجهمية ورؤوس الأشعرية؟
السؤال الثاني: إذا عذرنا الجاهل في بدعة مكفرة أو بدعتين فكيف نعذر العالم؟ وإذا عذرنا العالم فكيف نعذر الرأس (خصوصًا الرؤوس الذين بسببهم زاد الضلال في المذهب)؟ وإذا عذرنا كل هؤلاء كيف نلزم الناس بذلك بحيث نشنع على من خالف؟ وهل سبق أحد من السلف بهذا؟
السؤال الثالث: أيهما أشد، خلاف فريقين كلاهما متفق على أن هذا القول كفر أكبر ولكنهم اختلفوا في الحكم على كل الأعيان بهذا الحكم، أم خلاف فريقين اختلفوا هل هذا الفعل كفر أكبر أم لا؟
أقول: ظاهر جدًّا أن الخلاف الثاني هو الأشد، وإذا كان المرء يُشنِّع في الأهون فلازمُ هذا أن يُشنِّع في الأشد، وقد اختلف الناس في تارك الصلاة وتارك الزكاة وفي حكم الخوارج وفي الطائفة الممتنعة وفي تارك الحج، ولا أعلم أحدًا ممن لا يُكفِّر شنَّع على المكفر في هذه المسائل وهي الأشد، فإذا كان خلاف الناس في شيء هل هو كفر أم لا لم يصل فيهم إلى التشنيع، فكيف يُشنَّع عند الاتفاق على حضور الكفر ثم الخلاف في تعميمه؟
السؤال الرابع: معلوم أن كثيرًا من السلف أطلقوا عبارة “الجهمية كفار”، ومعلوم إقرار ابن تيمية لهذه العبارة واعتباره لها من باب الوعيد المطلق يعني كالوارد في النصوص (من فعل كذا فهو في النار) وقد يتخلف هذا الوعيد عن بعض الناس لموانع قامت فيه، ولكن لا يتخلف عن كل من ورد الوعيد في حقه.
السؤال هنا: هل يجوز إطلاق هذا الوعيد المطلق في حق الأشاعرة ما داموا جهمية وما قال السلف في الجهمية منطبق عليهم أو فيه على الأقل شبهة انطباق عليهم؟ فيقال (الأشاعرة كفار) على وزن (الجهمية كفار) فإن أطلقوا عدم الجواز نقضوا على أنفسهم في دعوى انطباق كلام السلف على الأشاعرة وبطل احتجاجهم على الأشاعرة، وإن أطلقوا الجواز وقيدوه بما قيده ابن تيمية ظهرت سهولة الخلاف وبطلان تشنيعهم على خصومهم.
وهم هنا يخالفون ابن تيمية بوضوح، فالشيخ لا يمنع من التكفير المطلق كما لا يمنع من اللعن المطلق، وأما المعين فيشترط توفر شروط وانتفاء موانع، فيقول الشيخ: «ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به، وكذلك “التكفير المطلق” “والوعيد المطلق”».
والتكفير المطلق مثل قولك (الجهمية كفار) أو (القائلون بخلق القرآن كفار) وهذا لا يطلقونه بل ينكرون على من يطلقه، بل العجيب أنهم ينسبون للعالم الذي يفرق بين الإطلاق والتعيين عدمَ التكفير، فيقولون (فلان لا يكفر)، كأنهم يقولون (فلان لا يلعن آكل الربا أو شارب الخمر) فقط لأنه توقف في معينين وقعت منهم هذه الجناية مع إقراره بالوعيد العام وأنه لا بد أن ينطبق على أفراد.
السؤال الخامس: إذا كان قولكم أن هذه المقالة كفر أكبر ولكن لا يكفر (كل) المعينين الواقعين فيها، وتستدلون بكلمة الشيخ في المناظرة على الواسطية أنه ليس (كل) من خالف في هذه العقيدة يكون هالكًا.
فينبغي على التقرير أن يكون المخالفون لكم على ضربين:
ضرب يُكفِّر كل الواقعين في هذا الكفر الأكبر، فقوله في الجهمية كمثل قولكم في الإسماعيلية والقرامطة والفلاسفة.
وضرب آخر يحكم بإسلام (كل) الواقعين في هذا الكفر.
فقولكم وسط كما يبدو، فلماذا الإنكار على الضرب الأول وترك الثاني؟ علمًا أن الأول أعذر لأن معه إطلاقات السلف، وأما الثاني فليس معه إطلاقات السلف، أم أنكم في حقيقة أمركم على المذهب الثاني وتجادلون بالمذهب الوسطي تغريرًا بالخلق؟
السؤال السادس: إذا كان الوعيد الوارد في الجهمية في كلام السلف منطبقًا على الأشاعرة كما قرره بعضكم وهذا تقرير صحيح تمامًا وقرره ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كثيرًا، فهل وُجِد في السلف من يقول: الجهمية مسلمون أو وُجِد من السلف من يمتحن الناس ببعض رؤوس الجهمية حكموا بإسلامهم وإلا اتهمهم بالغلو؟ أم الوارد نقيض هذا والإنكار على من يقول به؟ فإذا كان لم يَرِد فلماذا يُفعَل مع الأشاعرة؟ وهل يقال في الجهمية من أهل السنة فيما وافقوا فيه السنة؟
السؤال السابع: هل تنكرون على العلماء الذين يكفِّرون عوام الروافض؟ ثم أيهما أعذر، عالم أشعري أم رافضي عامي؟ وتذكر أن إنكار العلو أشد من سب الصحابة عند ابن تيمية، ولا أحتاج إلى أن أعطيكم نصوصه فلا أظنكم تجهلونها.
السؤال الثامن: هل ترون الخلاف في مسألة العذر بالجهل في مسائل توحيد الألوهية خلافًا سائغًا أم تتهمون المخالفين لكم بالغلو أيضًا؟ وإن كنتم لا تتهمونهم وترونه خلافًا سائغًا فما الفرق بين تكفير القبوري وتكفير الواقع ببدع الجهمية خصوصًا أن التعطيل أقل في الناس من الشرك كما يقول ابن تيمية؟
السؤال التاسع: ذهب بعض أهل العلم المعاصرين إلى تكفير الخوارج وما شنَّع عليه أحد فيما أعلم، مع أننا متيقنون من خلاف بعض الصحابة له، فأيهما أشد، تكفير الخوارج أم تكفير الواقع ببدع الجهمية وربما زاد عليها القبورية والتصوف الغالي؟
السؤال العاشر: هل ترون العلماء الذين أطلقوا التكفير في الأشعرية وما قيدوا ولا خصصوا من أمثال أبي إسماعيل الأنصاري وشيخه يحيى بن عمار السجزي والنهاوندي وأبي نصر السجزي والكرجي وابن الحنبلي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وابن مندة وابن قدامة وعبد الغني المقدسي وغيرهم كثير..
هل ترون قولهم أقل وجاهة من القول بتكفير تارك الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الطائفة الممتنعة أو الخوارج مع أن عندهم إطلاقات كثيرة عن السلف؟ وماذا لو وجدنا لهم كلمات في أبي حنيفة تخالف ما كان عليه السلف، لا شك ستحتجون بها، فلماذا لا يُحتَج بهم حين يوافقون الأوائل؟
وهل ترونهم غلاة؟ وإذا كانوا كذلك لماذا كُتب ابن تيمية لا تخلو من الاحتجاج بهم وذكر رواياتهم عن السلف في سياق الاحتجاج على المخالفين؟
السؤال الحادي عشر: لو كنت أقول بالعذر بالجهل أصالة في بدعة الجهمية، ولكنني رأيت قرائن في بعض الشخصيات من كونه رأسًا في بدعته أو تنوعت ضلالاته واشتدت أو رأيته عارفًا بالحديث معرفة تبعد عذره، فهل يجوز لك التشنيع عليَّ وأنت أصلًا توافقني على أن بدعته مكفرة؟
وسأكتفي بنقل نصين للذهبي، وهو من أكثر من يعوِّل عليه هؤلاء الشباب في مواقفهم من الأشخاص.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ مخاطبًا الحافظ ابن خراش الذي كان يطعن في الشيخين: “فأما أنت أيها الحافظ البارع الذي شربت بولك أن صدقت في الترحال فما عذرك عند الله مع خبرتك بالأمور فأنت زنديق معاند للحق فلا رضي الله عنك. مات ابن خراش إلى غير رحمة الله سنة ثلاث وثمانين ومائتين”.
ابن خراش هذا عالم، ولا أعلم أحدًا سبق الذهبي إلى تعيينه مع كون الذهبي جاء بعده بعدة قرون، ولكن كلام الذهبي على الأصول فهو رجل صدرت منه بلايا مع كونه عنده علم كبير.
ويقول الذهبي أيضًا في السير: “قال أبو سعد السمعاني: كان الواحدي حقيقا بكل احترام وإعظام، لكن كان فيه بسط لسان في الأئمة، وقد سمعت أحمد بن محمد بن بشار يقول: كان الواحدي يقول: صنف السلمي كتاب (حقائق التفسير)، ولو قال: إن ذلك تفسير القرآن لكفرته.
قلت: الواحدي معذور مأجور”.
تأمل أن المكفر معذور مأجور، مع أن السلمي هذا اتفقت الصوفية على إجلاله على اختلاف عقائدهم، وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: “وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل. فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم”.
وعلى ذكر ابن خراش والرافضة الكليني وغيره من علماء الإمامية القائلين بتحريف القرآن، الكل يكفرهم اليوم، ولكنك لن تجد نصًّا على معين فيهم في الغالب، مع كون الكليني ترجم له ابن الأثير وغيره اكتفاء بالنصوص العامة وظهور ضلالتهم وكون الشخص عالمًا، فتدبر هذا.
هذه الأسئلة وغيرها كثير جدًّا لبيان أن هذا القول في التعامل مع بدعة الأشعرية، الذي استُحدِث في الأربعين عامًا الأخيرة فحسب بهذا التركيب وإن كانت بعض أفراده قال بها أناس قبل هذا الزمان وأُوهِم طلبة العلم أنه قول السلف على مر التاريخ، قولٌ متهافت لا يصمد، ولكي تعلم مصداق قولي احفظ هذه الأسئلة وأوردها على أي واحد منهم واسمع العجب.