قال أبو الحسن المدائني في كتاب التعازي :
[ كانت العرب في الجاهلية -وهم لا يرجون ثواباً، ولا يخشون عقاباً- يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله
إيثاراً للحزم، وتزيناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء
حتى إن الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه.]
يصدق ذلك ما جاء في أشعارهم، ونثر من أخبارهم
[ ] قال دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله :
قليل التشكي للمصيبات، حافظٌ … من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
صبا ما صبا حتى إذا شاب رأسه … وأحدث حلماً قال للباطل: ابعد
[ ] وقال أبو خراش الهذلي:
تقول أراه بعد عروة لاهياً … وذلك رزءٌ لو علمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده … ولكن صبري يا أميم جميل
[ ] وقال أبو ذؤيبٍ:
وإني صبرت النفس بعد ابن عنبسٍ … وقد لج من ماء الشؤون لجوج
لأحسب جلداً أو لينبأ شامتٌ … وللشر بعد القارعات فروج
[ ] وقال عمير الحنفي:
ربما تجزع النفوس من الأمر … له فرجةٌ كحل العقال
[ ] وقال أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعاً … إن الذي تحذرين قد وقعا
[ ] وقال عمرو بن معدي كرب:
كم من أخٍ لي صالحٍ … بوأته بيدي لحدا
[ ] وقالت أخت ربيعة بن مكدمٍ ترثي أخاها:
ما بال عينك منها الدمع مهراق … سحاً فلا عازبٌ منها ولا راقي
فاذهب، فلا يبعدنك الله من رجلٍ … لاقى الذي كل حي بعده لاقي
لو كان يبقي سليماً وجد ذي رحمٍ … أبقى سليماً له وجدي وإشفاقي
أو كان يفدى لكان الأهل كلهم … وما أثمر من مالٍ له واقي
لكن سهام المنايا من قصدن له … لم يشفه طب ذي طب ولا راقي
لأبكينك ما ناحت مطوقةٌ … وما سريت مع الساري على ساقي
[ ] وقال حارثة بن بدرٍ، يرثي أخاه درعاً:
أمست ديار بني بدرٍ معطلةً … من طامعٍ كان يغشاها وزوار
يا أيها الشامت المبدي عداوته … ما بالمنايا التي عيرت من عار
اربع عليك فإنا معشرٌ صبرٌ … على المصيبات قدماً غير أغمار
أقول : قد أشجاني هذا الكلام غاية
فأقول على منواله قد كان من الجاهليين بل من لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا ويتمدح بالعفة لعلمه أنها من مكارم الأخلاق فيقول قائلهم
وأغض طرفي حين تبدو جارتي …. حتى يواري جارتي مأواها
فما بال أناس ينتسبون للملة وقد قرعت آذانهم الزواجر التي أنزل الله عز وجل ومع ذلك تراهم من أبعد ما يكون عن العفة ملبسا ومسلكا
وقد كان من الجاهليين ممن لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا من يبذل ماله ويكرم الناس لداعي الفخر
فما بال أقوام ينتسبون لملة الإسلام وقد علموا ما أنزل الله في فضل بذل المال والوعيد في حبسه عن مستحقيه ومع ذلك تراهم أهل بخل وشح
وترى الجاهلي يقاتل حمية ويستأسد في حروب كلها عصبيات وظلم وتجد مسلما يتلكأ ألف مرة عن إغاثة ملهوف أو نصرة مظلوم بالكلمة فضلا عن النفس وقد علم ما في ذلك من الظلم
ولا يزال في الأمة خير كثير غير المراد التنبيه على خيبة وخسران من كانت المروءة وحب الفخر في قلب الجاهلي أعظم أثرا من الإيمان في قلبه