قال مالك في الموطأ [246]: “عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله ﷺ قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»”.
أقول: هذا خبر مرسل، ولكن الإمام مالكاً اعتمده في الأذكار وجرت الأمة تابعة لهذا الإمام في ذلك.
يلاحظ أن هذا الدعاء ليس دعاء مسألة، وإنما هو دعاء ثناء على الله عز وجل.
وسبب كونه أفضل الدعاء أن به يصح الدعاء وبه تغفر الذنوب (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فالتوحيد خير ما توسَّل به المتوسلون.
ويشهد لمعناه الحديث الوارد في الشفاعة:
قال البخاري في صحيحه: “99- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله ﷺ: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، أو نفسه»”.
الشفاعة مغفرة، وأجلّ الدعاء طلب المغفرة، وهنا النبي ﷺ يرشد لطلب الشفاعة لا عن طريق الاستغاثة به أو سؤاله إياها أو التوسل به، بل يرشد إلى طلبها عن طريق تحقيق التوحيد بـ(لا إله إلا الله).
وهذا يدلك على أن قائليها يتفاوتون في تحقيقها.
وأسعد الناس بذلك أهل السنة الذين قضوا أعمارهم ينكرون الشرك من دعاء غير الله والنذر لغيره والذبح لغيره، بل نظروا إلى ما يقدح في كماله من الحلف بغير الله وقولك (ما شاء الله وشئت) والطيرة وغيرها، فباينوها وحذَّروا منها وأكثروا.
فالإخلاص في (لا إله إلا الله) يتحقق في تعلُّمها وتعليمها والحث عليها والموالاة والمعاداة عليها، وكثرة اللهج به إدراكاً لمعناها واعتزازاً به ينعكس على السلوك.
فلا يبعد أن يكون هذا الذكر الذي كان سبباً في تحقق الشفاعة، وأهله أسعد الناس بالشفاعة، والشفاعة بعدها الجنة ولا شيء أعلى من الجنة، لا يبعد أن يكون هذا الذكر سبباً في استجابة الدعاء فيما دون ذلك.
وقد صح عن ابن عمر تطبيقه لهذا الإرشاد النبوي:
فروى الطبراني في الدعاء وفضل عشر ذي الحجة بسند جوّده ابن تيمية في شرح العمدة وقبله الضياء في السنن والأحكام عن ابن عمر أنه كان يدعو عشية يوم عرفة بقوله: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم اهدنا بالهدى، وزينا بالتقوى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ثم يخفض صوته ثم يقول: اللهم إني أسألك من فضلك وعطائك رزقا طيبا مباركا، اللهم إنك أمرت بالدعاء، وقضيت على نفسك بالاستجابة، وأنت لا تُخلف وعدك، ولا تَكذِب عهدك، اللهم ما أحببت من خير فحبِّبه إلينا ويسِّره لنا، وما كرهت من شيء فكرِّهه إلينا وجنبناه، ولا تنزع عنا الإسلام بعد إذ أعطيتنا”.
فتأمَّل كيف أنه بدأ بكلمة التوحيد كالمتوسل بها ثم جاء بمسألته.
وقد ذكر المجدد هذا الأثر في كتابه مجموع الحديث على أبواب الفقه، ولكن لقلة العناية بالكتاب -على نفعه- صارت هذه الفائدة من الغرائب.