أئمة الجرح والتعديل وقول من يقول ( إن الله لن يسأل لم لم تبدع فلاناً أو تكفر فلاناً )

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل ص180 :

نا صالح بن أحمد نا علي – يعني ابن المديني – قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي
نا حماد بن زيد قال :

 كلمنا شعبة وعباد بن عباد وجرير
بن حازم في رجل – قلنا : لو كففت عنه ، قال فكأنه لان وأجابنا

قال فذهبت يوما أريد الرجعة فإذا شعبة ينادي من خلفي فقال : ذاك الذي قلتم
لي فيه لا اراه يسعني

أقول : هذا إسنادٌ صحيح مسلسل بالأئمة فانظر كيف رأى الإمام شعبة بن الحجاج
أن كلامه في الرواة واجب ولا يسعه تركه

 فأين هذا الفقه من قول من يقول
( إن الله لن يسألك عن الكلام في فلان أو فلان ) ؟

وقريب من هذا ما روى أبو إسماعيل الأنصاري في ذم الكلام 1076 :

 أخبرنا عبد الواحد بن أحمد، ثنا
البيع، سمعت أحمد بن كامل، سمعت أبا سعد يحيى بن أبي منصور الهروي يذكر عن أبي بكر
بن خلاد؛ قال:

:قلت ليحيى بن سعيد: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماؤك
عند الله يوم القيامة؟!

 قال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب
إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لم حدثت عني حديثاً ترى أنه
كذب؟!.

أقول : فتأمل كيف رأى أن سكوته عن أهل الباطل سيكون سبباً في مخاصمة النبي
صلى الله عليه وسلم له ، فمثله من يتكلم في أهل البدع يقول : لأن يكون هؤلاء خصمائي
يوم القيامة أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لمَ لم تنف
التحريف عن ديني .

وأئمة الجرح والتعديل من أمثال شعبة والقطان وابن مهدي كانوا مثالاً يحتذى
في الزهد والورع وما حملهم على الكلام بالناس إلا خوفهم من الله عز وجل

قال الدوري في تاريخه 4181 : سَمِعت يحيى يَقُول قَالَ يحيى بن سعيد :

مَا دخلت كنيفا قطّ إِلَّا وَمَعِي امْرَأَة قَالَ يحيى كَانَ رجلا ضَعِيف
الْقلب

أقول : ومع ضعف قلبه في أموره الطبعية ، كان أسداً هصوراً إذا تعلق الأمر
بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى صار لاسم يحيى بن سعيد القطان هيبته في كتب الرجال
، وبذل غاية الجهد في الذب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم حتى أعلى الله ذكره

وقال الدوري في تاريخه 4552 : سَمِعت يحيى يَقُول :

رَأَيْت يحيى بن سعيد يبكى وَقَالَ لَهُ شيخ من جِيرَانه إِنَّك لَا أصل
لَك

 فَجِئْته وَهُوَ يبكي وَيَقُول
أجل وَالله مَالِي أصل وَلَا فصل وَمَا أَنا وَمن أَنا

قَالَ يحيى وَكَانَ يحيى بن سعيد أَحول

أقول : فانظر إلى تنازله لما تعلق الأمر بشخصه ، ولكنهم في دين الله عز
وجل لا يداهنون

 بخلاف أدعياء الورع اليوم الذين
يقولون ( إن الله لن يسألك عن تكفير أو فلان أو تبديع فلان ) ، فتظن بهم الورع حتى
إذا تكلم فيهم أحد تلاشى كل هذا الورع

 وذهب تأصيلات ( الرفق ) و ( اللين
) و ( السلامة ) ، وهاجم من تكلم فيه هجوماً قسورياً

 كان يضن به على أهل البدع ، ولكن
الكلام فيه خطيئة تسقط العدالة والحرمة عنده ، فشتان بين أهل الورع البارد وبين أئمة
السلف

قال البخاري في صحيحه 6467- [151-2485] حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ
، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ
، قَالَ عَمْرٌو ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ
سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ عُمَرَ ، مَرَّ بِحَسَّانَ وَهُوَ يُنْشِدُ
الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ ،
وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ
: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : أَجِبْ عَنِّي ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ
نَعَمْ.

قال ابن حبان في كتاب في المجروحين (1/ 31) :

” في هذا الخبر كالدليل على الأمر بجرح الضعفاء  لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لحسان بن ثابت : ” أجب عني “

 وإنما أمر أن يذب عنه ما كان يقول
عليه المشركون فإذا كان في تقول المشركين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يأمر أن يذب عنه ، وإن لم يضر كذبهم المسلمين ، ولا أحلوا به الحرام ، ولا حرموا به
الحلال ، كان من كذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين
الذي يحل الحرام ، ويحرم الحلال بروايتهم أحرى أن يؤمر بذب ذلك الكذب عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وأرجو أن الله تبارك وتعالى يؤيد من فعل ذلك بروح القدس

 كما دعا لحسان بذب الكذب عنه ،
وقال : ” اللهم أيده بروح القدس ” ولم يكن هذا العلم في زمان قط تعلمه أوجب
منه في زماننا هذا ، لذهاب من كان يحسن هذا الشأن وقلة اشتغال طلبة العلم به

 لأنهم اشتغلوا في العلم في زماننا
هذا ، وصاروا حزبين : فمنهم طلبة الأخبار الذين يرحلون فيها إلى الأمصار ، وأكثر همتهم
الكتابة ، والجمع دون الحفظ ، والعلم به وتمييز الصحيح من السقيم ، حتى سماهم العوام
الحشوية والحزب الآخر المتفقهة الذين جعلوا جل اشتغالهم بحفظ الآراء والجدل ، وأغضوا
عن حفظ السنن ومعانيها ، وكيفية قبولها وتمييز الصحيح من السقيم منها مع نبذهم السنن
قاطبة وراء ظهورهم”

أقول : ومثل الضعفاء أهل البدع ، فإنهم أيضاً أهل تحريف لدين الله عز وجل

 فكشف حالهم ذبٌ عن الشريعة لأنهم
ينسبون للشريعة ما ليس منها ، فكانوا كالكذابين الذين ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم
ما لم يقل من هذا الوجه

وتأمل قول ابن حبان (ولم يكن هذا العلم في زمان قط تعلمه أوجب منه في زماننا
هذا )

 فكيف بزماننا بل قالها قبله الإمام
أحمد ابن حنبل

قال قوام السنة الأصبهاني في الترغيب والترهيب 490: أخبرنا عبد الرزاق
بن عبد الكريم، أنبأ أحمد بن موسى الحافظ، أنبأ عثمان بن محمد العثماني، ثنا أبو بكر
الجواربي الواسطي، ثنا الحسن بن ثواب البغدادي قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما أعلم الناس
في زمان أحوج منهم إلى طلب الحديث من هذا الزمان. قلت: ولم؟

 قال: ظهرت بدع فلو لم يكن عنده
حديث وقع فيها.

وقال الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص225 :” طلب الحديث في
هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع لأجل دروس السنن وخمولها ، وظهور البدع واستعلاء
أهلها “

وقال الله تعالى : (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )

وكتمان الشهادة إنما يترتب عليها ضياع حقوق الناس في الدنيا ، فكيف بالسكوت
عن جرح المجروحين الذي يترتب عليه الاغترار بأهل البدع ،وبالتالي انتشار بدعهم بين
الناس وضياع السنن ؟

قال ابن حبان في مقدمة كتابه المجروحين (1/ 39) :” أجمع الجمع على
أن الشاهدين لو شهدا عند الحاكم على شيء من حطام هذه الدنيا ، ولم يعرفهما الحاكم بعدالة
أن عليه أن يسأل المعدل عنهما ، فإن كتم المعدل عيباً أو جرحاً علمه فيهما أثم بل الواجب
، أن يخبر الحاكم بما يعلم عنهما”

أقول : فكيف بأمر الدين ، فأين هذا التأصيل المتين من قول من يقول ( إن
الله لن يسألك عن جرح المجروحين ) ، فكيف لا يسأله عن الواجب عليه ؟

وقال أبو نعيم الأصبهاني في مقدمة حلية الأولياء ص4 :

” وذلك لما بلغك من بسط لساننا ولسان أهل الفقه والآثار في كل الأقطار
والأمصار في المنتسبين إليهم من الفسقة الفجار والمباحية والحلولية الكفار وليس ما
حل بالكذبة من الوقيعة والإنكار بقادح في منقبة البررة الأخيار وواضع من درجة الصفوة
الأبرار بل في إظهار البراءة من الكذابين والنكير على الخونة البطالين نزاهة للصادقين
ورفعة للمتحققين ولو لم نكشف عن مخازي المبطلين ومساويهم ديانة للزمنا إبانتها وإشاعتها
حمية وصيانة”

أقول : يريد أنه لو لم يكن لجرح الفساق وأهل البدع فائدة ، سوى تحقيق براءة
أئمة أهل الإسلام المتقدمين منهم ، والتمييز بينهم وبين أهل السنة الأخيار لكفى به
فائدة .

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/ 205) :” وَهَذَا حَقِيقَةُ
قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: إنَّ الدُّعَاةَ إلَى الْبِدَعِ
لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْعِلْمُ
وَلَا يُنَاكَحُونَ. فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ لَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا؛ وَلِهَذَا يُفَرِّقُونَ
بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ
فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِخِلَافِ الْكَاتِمِ “

أقول : وفي السكوت عن أهل البدع ، تضييع لهذه العقوبة وفوائدها العظيمة،
وتسويةٌ بين مستحق العقوبة وغير المستحق

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم