قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية :” إن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة مالا يوجد في كلام عامة الطوائف فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة”
هذا النص سيار جداً في الكتابات المعاصرة لبيان إنصاف الشيخ مع الأشعرية كما يقولون ، وحقيقة يحزنني مثل هذه الممارسة التي يفعلها دائماً من يقتطع هذا النص
فكتاب ابن تيمية اسمه بيان تلبيس الجهمية وهو رد على الرازي الأشعري إذن هو يعتبر الأشعرية المتأخرين جهمية من عنوان الكتاب
ولنرجع إلى نص كلام الشيخ ولنرى بداية : فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء أشعريًّا كان أو غير أشعري وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل الفاسدة وإن كان في كلامهم ….
فأنت ترى أن كلامه عن الكلابية ومتقدمي الأشعرية ونص على أن أحمد بدعهم وأن كل المتكلمين مبتدعة ولكن الذي لا يعرفه كثيرون ممن يدفع له هذا النص أن الشيخ يفرق بين متقدمي الأشعرية ومتأخرين لأن المتقدمين يثبتون العلو والصفات الذاتية وكل ثناء على المتقدمين لا يشمل المتأخرين
وهذا سيؤكده نقلي لبقية كلام الشيخ الذي لا ينقل عادة تعمداً والله المستعان : فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهم فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية وأخذوا لوازمها وكان أبو المعالي الجويني كثير المطالعة لكتب أبي هاشم بن أبي علي الجبائي وكان من أذكياء العالم وكان هو وأبو الحسن الأشعري كلاهما تلميذًا لأبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع إلى مذهب الأثبات الذين يثبتون الصفات والقدر ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار ولا يكفرون أحدًا من أهل الإيمان بذنب ولا يرون القتال في الفتنة فناقض المعتزلة في أصولهم الخمس التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة التي يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما أبو هاشم فكان على هذه الأصول مع أبيه وإِن كان يخالفه في كثير من المسائل وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية ويسلمون لهم نفي علو الله على العرش وهذا عكس الواجب ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم حتى يقول قائلهم من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله أو نحو هذا الكلام ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف ما أطمع أولئك فيهم .
فهنا الشيخ ينص على أن المتأخرين غير الذين مدحهم وأن المتأخرين من الجويني فما بعده أظهروا نفي العلو وأن كلامهم مع المعتزلة انتهى إلى خلاف لفظي في القرآن ووفاق في العلو وقول متناقض في الرؤية وأنهم أطمعوا الفلاسفة بهم لشدة تناقضهم
طيب ما حكم منكري العلو عند ابن تيمية وهل يصح أن يكونوا ممثلي أهل السنة في بلاد فيها روافض ولا يوجد فيها أهل حديث ؟
قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية:
” ولا يقدر أحد ان ينقل عن أحد من سلف الامة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا شيئا من عبارات النافية أن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا انه لا داخل العالم ولا خارجه ولا ان جميع الامكنة بالنسبة اليه سواء ولا انه في كل مكان او انه لا تجوز الاشارة الحسية اليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة لان يكون فوق العرش لا نصا ولا ظاهرا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم
وإذا كان كذلك فليعلم ان الرازي ونحوه من الجاحدين لان يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها الذين لهم في الامة لسان صدق ومخالفون لعامة من يثبت الصفات من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والمتكلمين مثل الكرامية والكلابية والأشعرية الذين هم الأشعري وأئمة اصحابه ولكن الذين يوافقونه على ذلك هم المعتزلة والمتفلسفة المنكرون للصفات وطائفة من الأشعرية وهم في المتأخرين منهم اكثر منهم في المتقدمين وكذلك من اتبع هؤلاء من الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الحديث.
هذا نقل من نفس الكتاب يقول فيه ابن تيمية أن السلف ذموا نفاة العلو بأكثر مما ذموا به الرافضة والحرورية والقدرية ( ومعلوم أن كل واحد من هؤلاء وقع النزاع في تكفيره مما يدل على أن تكفير نفاة العلو أمر ظاهر سواء بإطلاق أو مع تفريق بين من قامت الحجة ومن لم تقم ) وأن حتى متقدمي الأشعرية يثبتونه
وسبحان الله بقدر ما النص المذكور في بداية المقال مشهور ، بقدر ما النص الذي هنا من نفس الكتاب مغمور والسبب في ذلك والله المستعان القراءة الاجتزائية المتأثرة بالأهواء العصرية وأنت إن كان لك مذهب فلا داعي أن تبتر وتحرف وتجتزيء من تراث رجل معظم لكي تثبت صدق قولك ، وابن تيمية بالذات في مسائل الأحكام على الأفراد والجماعات لا يكاد يوجد له تصنيف مفرد وإنما كلامه متفرق لأنه كان يهتم بنقد المقالات المنتشرة أكثر من موضوع الحكم لهذا مادته النقدية متقفونها كثر ولكن مادته الحكمية تحتاج إلى تحرير ولكن التجرد مفقود للأسف فقد رأيت من كثيرين تعمد كتم النصوص التي لا توافق الأفكار التجميعية وإبراز بعض المواقف من هاهنا وهناك بشكل يعطي صورة مشوهة عند المتلقي فالشيخ منصف نعم ولكنه ليس متميعاً وله تفصيلات وضوابط يستغلها البعض للجنوح إلى إلغاء حكم التكفير أو التبديع والشيخ كان يتكلم عن ضبط لا إلغاء وعامة الرسائل المفردة في موقف الشيخ من الطوائف على هذا السمت ، وسبحان الله عامة المعظمين للشيخ في هذا العصر تجد إن تنازعوا في مسائل لها بعد سياسي أو متعلق ببعض النظريات العصرية الإصلاحية والتي من أركان بعضها بعض ضروب التجميع على غير نقاء تجد كل فريق منهم ينتحل الشيخ وكلام الشيخ وسط بينهم لهذا تجد كل فريق منهم يأخذ من كلامه جزءاً ويبرزه لأتباعه ، وقد يكون قول الشيخ فيه نظر ولكن من يخالف الشيخ ليقل ذلك بكل أريحية ويناقش بأدب بدلاً من التزوير والبتر والاجتزاء
وإذا جهرت للبعض بأن الشيخ يرى أن إنكار العلو أشنع بدعة وأنها أشنع من البدع الأخرى وأن عليها أدلة لا تحصر وأنها أظهر مسائل الشريعة ( كما نقل عن ابن رشد ) بل نص في بيان التلبيس إن إنكار العلو أشد من عبادة الأوثان
قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية مخاطباً الرازي (4/292) :” فتبين أن الذي قلته أقبح من هذا الشرك ومن جعل الأنداد لله كما أن جحود فرعون الذي وافقتموه على أنه ليس فوق السموات رب العالمين إله موسى جحوده لرب العالمين ولأنه في السماء كان أعظم من شرك المشركين الذين كانوا يقرون بذلك ويعبدون معه آلهة ( وهذا نص تم كتمه أيضاً للضرورة الحركية )
يقفز لك بذكر بعض أسماء الذين تلبسوا بهذه البدعة الشنيعة وكأنهم أنبياء أو صحابة أو مجمع على هدايتهم أو من علماء القرون الفاضلة أو من المجددين الذين لو سقطوا لم يعد في العصر مجدد ( وليسوا كذلك حتى عند أصحابهم ) ، وإذا كنت تعذرهم مع كونهم مخالفين لك في كل أبواب العقيدة الهامة في الإيمان والقدر والأسماء والصفات والنبوات ومصادر التلقي في العقيدة والتصوف والبدعة الحسنة بل وعدد من مسائل توحيد الألوهية ( على تفاوت بينهم ) وهم مع كل هذا عندك معذورون متأولون يريدون الخير فعذرك لمن يشركك في تغليطهم ولكن يحكم عليهم بحكم شديد من باب أولى ولكن قومنا متأثرين بالثقافة العصرية الخلاف في أسماء وصفاته هين ويعذر فيه وأما الخلاف في شخص فلان وفلان الواقعين في أخطاء عقدية عظيمة باتفاقنا لا عذر فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله كم من مؤمن مات بحسرته ، ويغضب كثيرون ويقولون لماذا تفتحون هذه المواضيع ؟ وهل كنت تريد أن يدلس زيد ويبتر عمرو ويغتر بذلك بكر ونحن فقط ننظر ووالله أن تمييع مسائل العقيدة بهذه الصورة نفثة إنسانوية وأنها من أهم أسباب تسلط الأعداء علينا إذ ما نصرنا الله حق نصرته ولا أحد يبحث بتجرد ينكر صنيع غلاة المتكلمين في إذهاب هيبة النصوص من القلوب مما فتح الباب لكل مبطل.