نعمة الألم

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

كتب أحمد أمين مقالاً في مجلة الرسالة في نعمة الألم وفيه :” ولندع أيضا بحوث علماء الأخلاق في أن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئا غيرها، ويهرب من الألم ولا يهرب من شيء غيره، وانه حين يفر من اللذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وانه حين يتحمل الألم فإنما هو يفر من ألم اكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل – ولندع التعرض لما قام حول هذه النظرية من نزاع.
لندع هذا كله، ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، فيخيل إلي إنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، وإن فضل الألم عل العالم أكبر من فضل اللذة
إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب، أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق، وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثراً، ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسعفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب، ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى كسائر العقلاء – وإنما فضل المجنون لآن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما.
ولولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لان يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره، ولو نشا قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.
وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعمى – لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته، ولا أعجبت بكلماته، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب – إنما خلده ألم نفسه، وأبقى أسمه قوة حسه.
ولو شئت لعددت كثيراً من أدباء العرب والغرب أنطقهم بالأدب حينا ألم الفقر، وحينا ألم الحب، وحينا ألم النفي، وحينا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا النوع من أنواع الآلام.
نعم قد أجدت اللغة العربية على الأدب كثيرا – لقد أنتجت لهو امرئ القيس وطرفة، وخمر أبي نؤاس، وفخر أبي فراس ومجون الماجنين، وفكاهة العابثين، وكان غنى ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وجمال الاستعارات – وخلفت لذة هؤلاء أدبا ضاحكا، كما خلف الألم أدبا باكيا. خلفت اللذة أدبالمسلاة (الكوميديا) وخلف الألم أدبالمأساة (التراجيديا) ولكن أي الأدبيين أفعل في النفس، وأيهما أدل على صدق الحس، وأيهما أنبل عاطفة، وأيهما أكرم شعوراً، أي النفسين خير؟ أمن بكى من رؤية البائسين، أم من ضحك من رؤية الساخرين؟ أمن رأى فقيرا فعطف عليه، أو هزأت فضحك منه؟!
على أني أخشى أن تكون اللذة التي أخرجت الأدب الضاحك ليست إلا ألما مفضضا أو علقما (مبرشما) أليست خمر أبي نواس محورها (وداوني بالتي كانت هي الداء)؟ أو ليس قد هام بها لأنها (لو مسها حجر مسته سراء)؟ فهو يهيم بالخمر فرارا من ألم الدنيا ومتاعب الحياة؟
ولو فتشت عن دخيلة ابن المعتز، لرأيت ألما قد بطن بلذة وجحيما في شبه نعيم.
ثم تعال معي إلى الحياة الاجتماعية، فخير الأمم من تألم للشر يصيبه، والضر يلحق به، وهل تحاول أمة أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم، أو ليس من علامة تماثل المريض للشفاء أن يحس بالألم بعد الغيبوبة – ثم من هو المصلح؟ أليس اكثر قومه لما مما هم فيه. أو ليس هو أبعدهم نظرا، واصدقهم حسا. دعته رؤية ما لم يروا، وإحساسه ما لم يحسوا، أن يكون أعمق منهم ألماً وأشد منهم سخطاً، فلم يسعه إلا أن يجهر بالإصلاح وان يتحمل منهم عن رضى ما يصيبه من ألم، لأن ألم نفسه مما يرى بهم، أكبر من أي ألم يناله منهم؟ – وما الوطنية؟ ليست شعورا بألم يتطلب العمل؟
عرض عليها أن تعوض عنها لذائذ صرفة لما قبلتها. فلو عرض على الفيلسوف المتألم لذة غنى جاهل لرفض في غير تردد، ولو خير المصلح المجاهد، ينغص عليه قومه، وينغص عليه غير قومه، وينغص عليه بعد نظره، وينغص عليه قوة شعوره ما اختار من حياته بديلا – ذلك لأن آلامه سرى فيها نوع من اللذة لا يدركه إلا العارفون، واصبح يهيم بهذا الألم اللذيذ. ويرى اللذة الصرفة لذة أليمة – وكل ميسر لما خلق له.
أكره من الألم أن يكون ألماً يائسا، فهو يسلم للضعف فالموت، وأحب الألم الأمل فهو أبعث للقوة والحياة.
وتعجبني اللغة العربية إذ اربت في اللفظ بين الألم والأمل، وباعدت بين الألم واليأس، فاللهم لا تحرمني من الألم، ولكن قدر أن يكون ألماً لذيذاً”
هذا الكلام وإن كان بابه الأدب في غالبه إلا أنه يصلح في صياغة جواب عما يسمونه معضلة الشر وقد استخدم ذلك بعض الباحثين