قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة ص164: “مثل هذا من المؤمنين
إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب لا
يجب ان يبلغ الكفر وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر كما أطلق السلف الكفر على
من قال ببعض مقالات الجهمية مثل القول بخلق القرآن أو إنكار الرؤية أو نحو ذلك مما
هو دون إنكار علو الله على الخلق وأنه فوق العرش فإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم
من أظهر الأمور فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين
حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها”.
أقول : وقد علم إجماع السلف على تكفير القائلين بخلق القرآن ، فكذلك يكون
منكر العلو مكفراً أيضاً، وسواء قلنا هذا تكفير بالعموم أو الأعيان فإن السلف كانوا يطلقونه وينكرون على من لا يطلقه
جاء في زوائد كتاب الورع للمروذي قال ابو
بكر بن عبد الخالق سألت عبد الوهاب عمن لا يكفر الجهمية قلت يا ابا الحسن يصلي خلفه
قال لا يصلي خلفه هذا ضال مضل منهم على الاسلام.
والجهمية هم القائلون بخلق القرآن وإن لم ينفوا العلو فكيف بنفاة العلو
؟!
وقال حرب الكرماني في عقيدته التي نقل عليها إجماع أهل الحديث في عصره
:” والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر،
ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أكفر من الأول وأخبث قولًا،
ومن زعم إن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي خبيث مبتدع،
ومن لم يكفرها ولا القوم ولا الجهمية كلهم فهو مثلهم”.أ.هـ.
فانظر كيف نقل الاتفاق على تكفير المخلوقية واللفظية والواقفة ثم أنكر
على من لا يكفرهم وإنما أراد التكفير العام لا التعيين؛ فما بالك بمن ينكر العلو بل
يضيف إلى إنكار العلو إنكار صفات أخرى بل ويقول بخلق القرآن وأن القرآن الذي بين أيدينا
حكاية أو عبارة عن كلام الله.
وقول الأشاعرة في القرآن شر من قول الواقفة لأنهم يصرحون بأن ما بين أيدينا
مخلوق؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (1/283) :” قال الشيخ
أبو الحسن: (وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام)،
قال: (ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرؤون مما
بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من
المشايخ والأئمة – منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي – يقولون : سمعنا جماعة
من المشايخ الثقات قالوا : كان الشيخ أبو حامد أحمد ابن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة
الذي طبق الأرض علما وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل
الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول : اشهدوا علي بأن القرآن
كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني”.
وقال الدارمي في الرد على الجهمية وهو يعدد أسباب تكفير الجهمية ص198:
“قال الله تبارك وتعالى : ﴿بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾،و ﴿ما منعك أن تسجد
لما خلقت بيدي﴾و﴿بيدك الخير إنك على كل شيء قدير﴾وقال: ﴿يد الله فوق أيديهم﴾، قال هؤلاء
: ليس لله يد ، وما خلق آدم بيديه ، إنما يداه نعمتاه ورزقاه . فادعوا في يدي الله
أوحش مما ادعته اليهود ﴿قالت اليهود يد الله مغلولة﴾، وقالت الجهمية : يد الله مخلوقة
، لأن النعم والأرزاق مخلوقة لا شك فيها ، وذاك محال في كلام العرب فضلا أن يكون كفرا
؛ لأنه يستحيل أن يقال : خلق آدم بنعمته ، ويستحيل أن يقال : في قول الله تبارك وتعالى:
﴿يدك الخير﴾: بنعمتك الخير ؛ لأن الخير نفسه هو النعم نفسها ، ومستحيل أن يقال في قول
الله عز وجل : ﴿يد الله فوق أيديهم﴾: نعمة الله فوق أيديهم ، وإنما ذكرنا هاهنا اليد
مع ذكر الأيدي في المبايعة بالأيدي ، فقال: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد
الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾، ويستحيل أن يقال: ﴿يداه مبسوطتان﴾:
نعمتاه ، فكأن ليس له إلا نعمتان مبسوطتان ، لا تحصى نعمه ، ولا تستدرك ، فلذلك قلنا
: إن هذا التأويل محال من الكلام فضلا أن يكون كفرا”.أ.هـ.
فجعل تأويل صفة اليد بدعة مكفرة وقد وقع الأشاعرة في هذا فيا ليت شعري
ما يقال في منكر العلو أيضاًومنكر الحرف والصوت ومنكر الحكمة ، وأضاف إلى مقالة جهم
في الإيمان وهي كفر عند السلف، وإذا لم يكن العلو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع
والعقل والفطرة إنكاره كفراً فما الذي إنكاره كفر؟!
وقال البربهاري في شرح السنة [73] والإيمان بأن الله تبارك وتعالى هو الذي
كلم موسى بن عمران يوم الطور وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا
من غيره، فمن قال غير هذا فقد كفر.
فما بالك بمن قال غير هذا وشنع على مخالفه واعتقد مع ذلك نفي علو الله
عز وجل على خلقه، وقد أحسن الباحث الدكتور خالد كبير علال ( ولا أعرف منهجه ) حيث قال
في كتابه الأزمة العقيدية بين أهل الحديث والأشاعرة:” أولا إن من علماء أهل الحديث
من كفّر الأشاعرة ضمنيا دون تسميتهم ، و منهم من كفّرهم صراحة ، فمن الصنف الأول أبو
محمد البربهاري الحنبلي البغدادي(ت 329ه) ، كفّر من أنكر تكليم الله تعالى لنبيه موسى-عليه
السلام- بصوت . و حكمه هذا ينطبق على الأشاعرة ، لأنه سبق أن ذكرنا – في التمهيد –
إنهم يُنكرون تكلّم الله تعالى بصوت.
و الثاني هو الحافظ اللالكائي (ت 418ه) ، قرر إن القرآن كلام الله تعالى
، تكلم به حقيقة ، و ليس هو عبارة و لا حكاية عنه ، و هو مكتوب في المصاحف ،و محفوظ
في الصدور، و من قال غير ذلك فهو كافر ضال مضل . و حكمه هذا يندرج فيه الأشاعرة ، و
قد أشار إليهم عندما قرر إن كلام الله حقيقة ، ليس هو حكاية و لا عبارة عنه ، و المعروف
عنهم إنهم هم الذين يقولون بذلك.
و أما الذين كفّروا الأشاعرة صراحة فمنهم الحافظ أبو نصر السجزي (ت
444ه) ، فقرر إن من قال بمقالة أبي الحسن الأشعري في القرآن الكريم ، فهو كافر بإجماع
الفقهاء . و منهم أيضا ابن حزم الظاهري ، فإنه كفّر من يقول بمقالة الأشعري في كلام
الله تعالى ، و جعلها من أعظم الكفر ، و هي مقالة مخالفة للقرآن و تكذيب لله تعالى”.
وقد نص شيخ الإسلام على أن علو عز وجل مما يعلم من الدين بالاضطرار؛ قال
شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (7/27): “وجواب هذا أن يقال القول بأن
الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر
ذلك كالعلم بالأكل والشرب في الجنة والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب والعلم بأن الله
بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بل نصوص
العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة
والتابعين متواترة موافقة لذلك فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين قد يقال إنه
يحتمل التأويل ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك كما تنطق بذلك كتب الآثار
المستفيضة المتواترة في ذلك وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن أعظم مما يعلمون أحاديث
الرجم والشفاعة والحوض والميزان وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع
والقياس وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة وسجود السهو ومنع نكاح المرأة على
عمتها وخالتها ومنع ميراث القاتل ونحو ذلك مما تلقاه عامة الأمة بالقبول.
ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار
من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة
لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع
والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما
يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا
يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل
ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري”.
وتأمل قوله أن السلف ( مطبقون على تكفير من أنكر ذلك ) يعني علو الله عز
وجل على خلقه ، ولا شك أن الجهمية الذين كفرهم السلف كان عندهم شبهات وتأويلات لم تدفع عنهم التكفير
بالاطلاق سواء قلنا بالعموم أو التعيين
وليعلم أن متأخري الأشاعرة ينكرون الرؤية أيضاً وخلافهم من المعتزلة في
ذلك لفظي؛ قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (2/ 369): “ولهذا تجد هؤلاء
الذين يثبتون الرؤية دون العلو عند تحقيق الأمر منافقين لأهل السنة والإثبات يفسرون
الرؤية التي يثبتونها بنحو ما يفسرها به المعتزلة وغيرهم من الجهمية فهم ينصبون الخلاف
فيها مع المعتزلة ونحوهم ويتظاهرون بالرد عليهم وموافقة أهل السنة والجماعة في اثبات
الرؤية وعند التحقيق فهم موافقون المعتزلة انما يثبتون من ذلك نحو ما اثبته المعتزلة
من الزيادة في العلم ونحو ذلك مما يقوله المعتزلة في الرؤية او يقول قريبا منه ولهذا
يعترف هذا الرازي بأن النزاع بينهم وبين المعتزلة في الرؤية قريب من اللفظي”.
والخلاصة أن من أنكر تكفير منكري العلو سواء قلنا بالاطلاق أو التعيين أو تكفير
القائلين بخلق القرآن فقد خالف اتفاق السلف وأنكر أمراً معروفاً
عندهم نعوذ بالله من الجهل والهوى.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم