في عام 2014 كتبت مقالاً بعنوان «تبديع ابن الزاغوني» ذكرت فيه كلام الذهبي في أن أناساً من أهل السنة بدَّعوا ابن الزاغوني لكلام له في الحروف والأصوات خالف فيه الحق.
وعلقت بما مضمونه أن ابن الزاغوني فقيه حنبلي وكان يُثبت الصفات بالجملة ويردُّ على الأشعرية، ومع هذا الذهبي -على تسامحه- ما استنكر تبديعه، ولم يكن تبديعه طعناً في علماء الإسلام أو عمالةً لأعدائهم أو هدراً للعلم أو غيرها من التُّهم، مع أنه أحسن حالاً من الأشاعرة بكثير.
وسجلت صوتية قبل عدة أعوام بعنوان «فوائد من كلام ابن تيمية والذهبي في ابن الزاغوني» زدت فيها فوائد.
منها: أن ابن تيمية نبَّه على اسم من ردَّ على ابن الزاغوني، وهو محمد بن ناصر السلامي، ونبَّه على مأخذ من بدَّعه، وأنه مع تبديعه أحسن حالاً من الأشاعرة، متقدميهم ومتأخريهم.
قال ابن تيمية في «التسعينية» [2/523] معلقاً على ابن الزاغوني ومن معه: “بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهموا من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق”.
ثم قال: “وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول: بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فبلغ ذلك الإمام أحمد، فأنكر ذلك إنكارا شديدا، وبدع من قال ذلك وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم؟”.
يقصد ابن تيمية أن ابن الزاغوني ومن معه ورثوا أولئك الذين ردُّوا على اللفظية بغلط، فبدَّعهم أحمد، وأما الأشاعرة فورثوا اللفظية الذين جهَّمهم أحمد، والتجهيم عنده تكفير، وإلا لم يكن هناك فرق بين الفرقتين، فهو يقول في أحدها (مبتدع) وفي الآخر (جهمي)، ولو كانا بنفس المعنى لاكتفى بواحد منها.
قال ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» [12/421]: “فقد أنكر بدعة “اللفظية” الذين يقولون: إن تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به مخلوق أئمة زمانهم جعلوهم من الجهمية وبينوا أن قولهم: يقتضي القول بخلق القرآن وفي كثير من كلامهم تكفيرهم”.
تأمَّل قوله: “وفي كثير من كلامهم تكفيرهم” وهناك رواية لأحمد صريحة يقول عنهم ليسوا بمسلمين عنده، رواها الخلال، والأشاعرة أشد ضلالاً من هؤلاء اللفظية بلا نزاع.
فنبهت أن ابن الزاغوني على إثباته للعلو والصفات الذاتية والحرف والصوت لمَّا غلط في مسألة كلام الله بدَّعوه، ونزَّل ابن تيمية عليه كلام أحمد، فمن باب أولى يُنزَّل كلام أحمد على الأشاعرة الذين هم أبعد من ابن الزاغوني عن الحق، وكما أن ابن الزاغوني ما درأ عنه علمُه وروايته للحديث وفقهه التضليلَ، فكذلك القوم لا يدرأ ذلك عنهم.
وقد نبهت مراراً على أن العالم السني قد يغتر ببعض المخالفين إذا رأى كلاماً له في السنة، كما يُذكر في اغترار الدارقطني بالباقلاني وبعض الناس بالأشعري (وتكلم السجزي عن ذلك في جزء الحروف والأصوات)، وقد يختلف العلماء في تحرير مذهب شخص دون تضليل لأحد الطرفين، كما اختلفوا في تحرير موقف ابن قدامة من الصفات، والراجح أنه مثبت، وأن يغتر بعض أهل السنة برجل مثل ابن الزاغوني أولى من الاغترار بالأشاعرة، فهو يُظهر الإثبات في عامة كلامه ويردُّ على المعطلة.
فنسبوا لي أنني لا أبدعه! (وهذا كذب).
وزعموا تناقضي إذ فرَّقت بينه وبين النووي، مع أنه كان حرباً على الأشاعرة، حتى قال ابن المبرد إنهم على بغضه مجمعون، بخلاف النووي الذي يعدُّهم مجددين ويسميهم أهل السنة.
والواقع أنهم هم من يفرِّق بين اعتقاد ابن الزاغوني واعتقاد الأشاعرة.
فالجزء في الحروف والأصوات المنسوب للنووي والذي يحتجون به على عودة النووي للسنة (والجزء لا يثبت، ولو ثبت لكان خيراً) فيه اعتقاد السالمية في القرآن الذي تأثَّر به ابن الزاغوني، بل الجزء إنما يقرِّر كلام ابن الزاغوني!
ففي الجزء نفسه الاستدلال بكلامه، فقد جاء في ذلك الجزء صـ53: “وقد أشار إليه الإمام أبو الحسن ابن الزاغوني في كتابه «الإيضاح»” وبعدها ذمَّ الكاتب الأشاعرة.
فكيف يزعمون أن هذا الجزء فيه رجوعه وفي الوقت نفسه يقولون في ابن الزاغوني إنه لا فرق بينه وبين النووي في طوره الأشعري؟!
والاتهام بالتناقض ليلحق أحمد الذي فرَّق بين من يقول: (لفظي بالقرآن مخلوق) ومن يقول: (لفظي بالقرآن غير مخلوق)، ومهما شوشت أنت لا تبدع أحداً في أمر الاعتقاد هذا، ولا تكتفي بذلك حتى تشنع على المبدِّع، فضلاً عن المكفِّر، فأنت خارج عن أقوال جميع الناس.