كيف دخلت الفرعونية على الأمة

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال تعالى : ( قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) )

أقول : في قول الكليم موسى ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) حجة على إبطال قول الملاحدة وأصحاب وحدة الوجود والفلاسفة والمتكلمين ثم ما ترتب على ذلك من وثنية بل وقول النصارى أيضاً

https://t.me/alkulife/8210

ولا عجب فإن الله عز وجل لا يلهم كليمه إلا أقوى الحجج والناس في غفلة عن الحجج العقلية في القرآن وطريقة القرآن أن يبدأ الأمر من حقيقة بديهية ويسلط عليها الضوء حتى يستخرج من هذه البديهية فصل النزاع في مسائل كثر فيها جدل النظار وبرهانها الفاصل أمامهم وهم لا يشعرون

فإن قلت : كيف تكون هذه العبارة الوجيزة متضمنة لكل المعاني التي تزعم ؟

فيقال : من أراد أن يفهم ليراجع صوتية فاعل فعل مفعول وهي على هذا الرابط : https://t.me/alkulife/7930

ولن أخليك من بيان هنا هو لما قال لهم ( ورب آبائكم الأولين ) نوه على حجة امتناع تسلسل الفاعلين أو المؤثرات فهم ليسوا خالدين بل ولدهم آباء وهؤلاء الآباء ولدهم آباء ولا يمكن أن يتسلسل هذا إلى ما لا بداية وإلا لما كانوا وجدوا فإذا وجودك متوقفاً على سلسلة لا بداية لها من الأسباب المؤثرة فلن تأتي إلى الكون قطعاً ولكنك هنا وتجادل أيضاً ! ، ولهذا لا بد من الوصول إلى الذي لم يلد ولم يولد الأول الذي لا بداية له ، قلنا عنه لم يولد لأنه لو كان ولد لكان له بداية ولو كان له بداية لافتقر إلى سبب في وجوده لأنه يستحيل أن يكون أوجد نفسه وهو لم يكن موجوداً أصلاً فالعدم لا يفعل وهذا جمع بين النقيضين ولو قيل فلان ولد نفسه لضحك الناس من ذلك لشدة سخفه ، وقلنا لم يلد لأن الولد من جوهر الوالد لهذا الأول الذي لا بداية له يستحيل أن يكون له ولد فهو أول لا بداية له والولد له بداية لهذا لا يكون له ولد من جوهره وهذا ضل فيه النصارى وتناقضوا تناقضاً يكشفه كل عاقل

فانتهينا من مجموع المقدمات السابقة إلى ضرورة وجود فاعل مختار قادر أوجد الكون من مجرد التفكر بوجود والد ومولود وسلسلة مواليد وعامة التجريبيين اليوم لا يفهمون هذه الحجة ويظنون أنه يمكن أن يوجدوا سبباً فيزيائياً أو بيولوجياً لوجود الكون ولا يدرون أن الأسباب إذا كانت لها بداية فإنها ستدل ضرورة على وجود الخالق كما يدل أي مولود ولا يوجد شيء لا بداية له سوى الخالق المباين فالعلم يتعامل مع الموجودات الحادثة المفتقرة فنهاية إلى سفسطة الكون خلق نفسه كقولك فلان ولد نفسه أو الرجوع خطوة إلى الوراء فحسب عن طريق إرجاع لسبب حادث أو الانتهاء إلى القول بسلسلة مؤثرات لا بداية لها وهذه سفسطة أو قولهم من خلق الخالق وهذا كقولك ما أول الأول الذي لا أول له وهذه سفسطة

وبثبوت القادر الفاعل المختار ينتقض قول الملاحدة وأصحاب وحدة الوجود والقائلين بقدم العالم ، وأما مقالة المتكلمين بنفي الأفعال الاختيارية فغاية ما عندهم الخلط بين التسلسل في الفاعلين والتسلسل في الأفعال فيقولون بامتناع الاثنين ويرون مجرد ثبوت الفعل الاختياري لله عز وجل مستلزماً لجواز التسلسل في الأفعال ولهذا ينفونها ومن هاهنا تسلط عليهم الملاحدة والقائلين بوحدة الوجود أنكم كيف تثبتون مفعولات اختيارية دون أفعال اختيارية وأوردوا عليهم إيرادات شديدة التملص منها عسير وكلا المقالتين متناقضة أشد التناقض
والواقع أن ثبوت امتناع تسلسل الفاعلين أو المؤثرات يدل ضرورة على جواز التسلسل في الأفعال أو المفعولات ودعوى العكس عجيبة فإننا استفدنا من دليل امتناع تسلسل المؤثرات أن الله عز وجل أول لا بداية له وأن له القدرة المطلقة فلو سألتك هل يجوز أن يوجد عالم قبل عالمنا هذا خلقه الله لأجبت بنعم ولو سألتك لم ؟ لقلت لأن القدرة حاضرة والمتسع الزمني حاضر فلو قلت لك هل يجوز أن يوجد عالم قبل ذاك العالم لأجبت بنعم وهكذا سيتسلسل جوابك إلى مالا بداية لأن الأولية حاضرة والقدرة حاضرة ونفي إحداهما يعني الكفر ببرهان امتناع تسلسل المؤثرات فهذا البرهان يدل ضرورة على جواز الأفعال الاختيارية لجواز تسلسلها وهنا تنتقض مقالة أهل الكلام الذين كانوا يردون على الفلاسفة القائلين بقدم العالم بالاستدلال عليهم بامتناع تسلسل المؤثرات والآخرون يتسلطون عليهم بنفيهم للأفعال الاختيارية وانتهائهم إلى القول بالترجيح بدون مرجح وكل فريق منهم ينكر دلالات النصوص الظاهرة بحجة المعقولات وهذه هي المعقولات سفسطات متناقضة

وتأمل استخدام الكليم لاسم ( الرب ) في قوله ( ربكم ) والرب هو المغذي للعباد بنعمه وكماله يقتضي كمال كل أفعال الله عز وجل الاختيارية المتعدية وفي الواقع لا يوجد فعل لازم قائم بالذات إلا وله أثر على المخلوقات ومن نفى ذلك كابر النصوص ولهذا روي عن بعض السلف أن الاسم الأعظم هو ( رب رب ) ولهذا تجد عامة أدعية الأنبياء في القرآن بهذا الاسم فعلى فالخلق والرزق والتدبير كل ذلك من خصائص الربوبية ففي مثل قوله تعالى ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) ( كن ) الفعل الاختياري ( فيكون ) المفعول الاختياري وهذه هي الربوبية أفعال اختيارية على مفعولات اختيارية من خلق ورزق وتدبير ولما أنكر المتكلمون الأفعال الاختيارية أنكروا الكلام وجعلوه مفعولاً اختيارياً بمعنى أنه مخلوق من مخلوقات الله عز وجل فحسب ، وأصل الوثنية الغفلة عن الأفعال الاختيارية الواقعة على المفعولات ( حقيقة الربوبية ) لذا تجد في النصوص التنبيه على أن الألوهية مستلزمة للربوبية ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) ( ومالي لا أعبد الذي فطرني ) وغيرها من النصوص فالعبادة رغبة ورهبة وعند ذهاب الاعتقاد بالأفعال الاختيارية يصير الاعتقاد بالمفعولات الاختيارية شيئاً متناقضاً في النفس فتوضع تلك الأوصاف على مخلوقات ثم تعبد ! فيكون هرب من التشبيه المزعوم وأشبع ما في نفسه من الافتقار ، ومن نفي الأفعال الاختيارية جاء الاعتقاد بأن الله لا يعبد رغبة ولا رهبة الذي يذكر في كلام بعض غلاة الصوفية ويجعلونه غاية كلام العارفين وحقيقته أنهم لما نفوا الحكمة عنه وأفعاله الاختيارية كان مناسباً تماماً أن تكون عبادتهم له غير معللة أيضاً ، نفي الأفعال الاختيارية هو التجهم وأما نفي الوجود الحقيقي لله فهو الغلو في التجهم ( الجهمي إذا غلا قال ليس هاهنا إله ) وقد كان متقدمي الأشعرية على نفي الأفعال الاختيارية ولكنهم يثبتون وجوداً حقيقياً لله في الخارج لذا تجد في كلامهم إثبات العلو واليد والوجه وأما متأخروهم فوقعوا في مقالة غلاة الجهمية ولهذا كان الشرك فيهم أفشى وأكثر

أفرأيت كيف أن في تلك الحجة الموسوية نقض كل هذا البلاء الكفري ، وقد كان السلف يستدلون على المباينة الزمانية بأن الله الأول على المبانية المكانية وأنه بائن من خلقه سبحانه وهذه حقيقة العلو وما تخلص المتكلمون من هذا إلا بجحود وجود حقيقي لله عز وجل في الخارج ولهذا السلف كانوا واعين لذلك فكانوا يقولون ( نهاية قولهم أن يقولون ليس هاهنا إله ) ويشيرون إلى السماء مع أن الجهمية كانوا يظهرون القول بأن الله في كل مكان ، فانتهى متأخرين إلى نفي الوجود الحقيقي له في الخارج بحجة نفي التجسيم فتسلط عليهم القائلون بقدم العالم من أمثال ابن سينا وأصحاب وحدة الوجود من أمثال ابن عربي فبنوا على نفي المتكلمين لوجود حقيقي في الخارج لله عز وجل ونفي الأفعال الاختيارية لله عز وجل نفي المفعولات الاختيارية وكله كفر يدخل بعضه على بعض

وما من شيء مما كتبته أعلاه إلا وهو مقرر تصريحاً أو تلميحاً في كلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل وبيان تلبيس الجهمية ، ولما اشتغل بعض المنتسبين لأهل الحديث بالعقليات ظننا أن مثل هذه الأبحاث ستطرق في الدرس العلمي فتفاجأنا أن كثيراً منهم لا يقرر هذه المعاني إلا ما ندر وظهر فيهم التملق الشديد للمتكلمين مع ضعف ديانة ظاهر وضعف عناية بالنصوص والآثار وازدراء لأهل الحديث الخلص على طريقة المتكلمين الذين تجد المرء فيهم يغوص في الكفر والسفسطة والشكوك حتى أنك لتجده مفرزة إشكالات ثم هو يزدري أهل الحديث ويسميهم حشوية ! ، فلا بقينا على القدر المجزيء من الدرس العقدي وهو أن تقول للناس تمسكوا بظواهر النصوص وكلام المتكلمين هذا من البدع والبدع ضلالات وهذا القدر الذي كان يخاطب فيه الأئمة الولاة والعامة إذا دعاهم المتكلمون لمقالتهم ولا نحن خضنا في الأمر بمستواه الأعلى كما ينبغي بل كثير منهم يؤثر الاشتغال بالقشور والأغلوطات على البيان النافع في هذه الأمور فصارت هذه الطريقة ضارة على أهل الحديث ، وتجد المرء منهم يقول ( أصحابنا ) ثم هو يرفض تنزيل كلام السلف على الجهمية وغلاة الجهمية من المتأخرين ممن مقالتهم عين مقالة المتقدمين الذين كفرهم السلف ويرى ذلك مخالفاً للأخوة الإيمانية في مصادرة على المطلوب فخصمك لا يقر بوجود الإيمان المجزيء أصلاً ، ثم المس الحركي عند آخرين ممن رأوا أن الأمة لا تتوحد إلا على تسطيح البحث العقدي ثم ليتهم بعد ذلك عندهم مشروع بل غاية ما عندهم تسطيح أيضاً في المشاريع الإصلاحية واستسلام لكثير من قيم الرأسمالية والحكم الجمعي وحمل الشريعة عليها قسراً وبسبب الكلف بالتجميع يتشبع العامي بقيم إنسانوية أو نسوية أو علموية أو مادية أو رأسمالية أو أي شيء شرقي أو غربي ويتملقه الشيخ ! لكي يلتف الناس حوله ويعينونه في مشروعه بعيد المدى الذي لا أدري لماذا لم يستحضر الآخرة عندما وضعه وصار أحسنهم طريقة من يحارب الإلحاد أو العالمانية الغالية أو التغريب وصار هذا باب التصحيح الوحيد فالمراجعة الخالصة وفقاً للنصوص والآثار أمرها مستبعد تماماً فالمعركة دنيوية بالدرجة الأولى في عقولهم لهذا استنطاق الوحي بعيد وإنما الحاضر استخدامه لخدمة المشروع يعني هو خلفهم لا أمامهم

وقوم فرعون مع ما أظهر الله لهم من البينات والحجج العقلية الدامغة مع المعجزات تجدهم يقولون ( لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ) فكل همهم الغلبة الدنيوية الحاضرة وهذا حال الكثير من المنبطحين الذين ينبطح أولاً للأقوى أو الغالب ثم يسفسط على الحق