فلم تجرِ عادتي بالنقل عن الباحثين المعاصرين إلا ما استفدته منهم ولم يكن لي بد من الإشارة إليهم ، وأما بناء مقال على كلام لباحث معاصر فهذا نادر فيما أكتب
غير أن البضاعة الطيبة تفرض نفسها كما يقال ، وقد قدر الله عز وجل لي اقتناء رسالة ( اختلاف السلف في التفسير بين التنظير والتطبيق ) وهي رسالة ماجستير لباحث يدعى محمد بن صالح بن محمد بن سليمان
وقد قدم له رجلان مشتغلان بالتفسير حاصلان على الدرجة العالمية الدكتوراة
غير أنني لمعرفتي بما تفرضه الألقاب من هيبة لأي أطروحة في هذه الأزمان ، وكيف أن من الناس من بلغ رتبة لا يقال له فيها ( من سلفك ؟) أو ( على ماذا بنيت ) قررت أن أنقل هذا الكلام لهذا الباحث من باب الإلزام ، وإلا فالكلام الذي قاله قررته كثيراً وذكرت كلام العديدين من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين
لقد بحث هذا الأخ في مسألة الحروف المقطعة ونقل الأقوال الثابتة عن السلف في تفسيرها بأنها من أسماء الله عز وجل أو من أسماء القرآن أو قسم ، ودفع الأقوال الأخرى
ثم قال هذا الباحث في ص315 :” وعلى ضوء ما سبق يتسنى لنا أن نقف مع تعقبات بعض المفسرين لأقوال السلف في تفسير هذه الحروف ، بكون أسماء الله توقيفية ، أو بكون اللغة لا تدل على ما ذكروه من أنها أسماء الله ، أو أسماء للسور ونحو ذلك متسائلين :
هل كان الطبري – مثلاً وغيره ممن سلك مسلكه – لا يعلم أن هذه الأقوال المذكورة لا تدل عليها العربية ؟ أو كان لا يعلم أن أسماء الله توقيفية ، وأنه لا يصح اعتبار مثل هذه الحروف أسماء له تعالى ؟
إن ذلك مما لا يخفى على إمام مثل الطبري يرجح في تفسيره بين الأقوال باللغة والقرآن والحديث وبغيرها ، فتراه يرد أقوالاً لمجرد وجود قرينة في السياق لا توافقها ، ويرد أقوالاً أخرى لكون ظاهر العربية يخالفها ، ثم يطلعك على ترجيحات تلمس فيها دقة عالية كل ذلك لا يجعلك تتصور بحال أن يكون قد اعتبر هذه الأقوال معاني لهذه الحروف .
إذ لو عرضت على من هو قليل العلم لاستنكرها ، فكيف بشيخ المفسرين ؟
على أنه إذا كانت مثل هذه الأمور لا تخفى على الطبري فمن باب أولى أن لا تخفى على علماء الصحابة والتابعين كابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وغيرهم ، فهل كان هؤلاء لا يعرفون أن أسماء الله توقيفية حتى نتعقب تفسيرهم بذلك ، وهل كانوا لا يعلمون أن ( الم) لا تدل اللغة بحال على أنها أسماء السور أو أسماء الله أو قسم أو نحو ذلك ؟ لا أظن أحداً يعتقد أو يرى ذلك .
فإن هؤلاء هم أهل العربية ، وهم من عايشوا نزول الفرقان ، وعاصروا وقت نزوله ، ولا أقصد بذلك تقديسهم ولا ادعاء عصمتهم ، لكن ما قصدت قوله : أنه يجب على من يتعقب مثل هذه الأقوال أن يتعقبها بما يظن خفاؤه على الصحابة والتابعين أو يظن جهلهم به ، ولا يسوغ لأحد أن يتعقبهم ببدهيات لا تخفى على من دونهم ” انتهى كلامه وفقه الله
وهذا كلام جميل أظهر فيه الباحث احتراماً جماً للسلف وتقديراً لعلومهم لا كما نرى اليوم من بعض الإخوة غفر الله لهم وبصرهم برشدهم
وتخريجاً على كلام الباحث يقال أيضاً : أن الصحابة ما كانوا يجهلون أن الإسرائيليات لا تصدق ولا تكذب فكيف يحدثون بها جازمين ويفسرون القرآن بها ، بل وكثير مما يدعى اسرائيليات لا يقف بعض الباحثين عند هذه الدعوى حتى يرفدها باستهجان متنها وأنها تخالف العقيدة أو فيها طعن في الأنبياء أو غيرها من الأمور والله المستعان
ولهذا الباحث في رسالته المذكورة مناقشة جيدة لمحمد رشيد رضا وحاكم العبيسان في زعمهما أن الأخبار الواردة عن السلف في أن الرعد ملك إسرائيليات
قال الباحث المذكور في 380 من رسالته :” ثالثاً قوله – يعني محمد عبده – (( ولكن أكثر المفسرين ولعوا بحشو تفاسيرهم بالموضوعات التي نص المحدثون على كذبها ، كما ولعوا بحشوها بالقصص والاسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود )) دعوى عريضة لا أساس لها .
إذ الشيخ لم يذكر محدثاً واحداً نص على كذب هذه الروايات ، سواءً كانت مرفوعة أو موقوفة ، بل الطرق على ما في كثير منها من ضعف ليس فيها راو واحد اتهم بالكذب فضلاً عن أن يكون كذاباً ، وقد كان اللائق قبل إصدار هذا الحكم العام الكلام على أسانيد وطرق هذه الأخبار والآثار لكن ذلك لم يكن ، والبينة على من ادعى
رابعاً : لم يثبت عن واحد من الصحابة ولا عن واحد من التابعين في مسألة الرعد هذه أنه نقل عن أهل الكتاب ، فادعاء أن هذا مما نقلوه عن كعب الأحبار وغيره لم يثبت .
بل اضطربت فيه الروايات ، وهو معارض بما ثبت عن ابن عباس أنه فسر الرعد بأنه ملك يزجر السحاب وكذا عن مجاهد وأبي صالح وعكرمة وغيرهم .
ولو سلمنا على سبيل التنزل أن هذا مما أخذوه عن أهل الكتاب فهو من الإسرائيليات الموافقة للشرع ، لا المخالفة له وقد نص الشافعي على كون هذا التفسير موافقاً لظاهر القرآن ، كما سبق الإشارة إليه من كلامه والشافعي أفهم لكلام السلف ، واعرف بمرادهم من غيره ، ثم إن هذا القول هو قول جمهور السلف فهل كان كل هؤلاء الأعلام في غفلة مما فطن إليه المتأخرون ؟”
والسؤال الأخير بليغ جداً ينبغي للمرء أن يوجهه لنفسه في كل مناسبة تعرض توافق هذه المناسبة ، وكثير من الأغمار لا يستقيم في عقله أن مجموعة من علماء المعاصرين قد أخطأوا في مسألة فقهية أو في التفسير ويستقيم في عقله أن يكون جمهور السلف من الصحابة والتابعين على خطأ
قال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد (1/231) :” والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره _ يعني تفسير الطبري _ ، لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ”تفسير الكشاف” للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون، لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا”
وهذه نتيجة طبيعية لتلك الدعوى العريضة التي قالها محمد عبده وتأثر بها بعض الناس من أن كتب التفسير السلفية ملأى بالتفسيرات الإسرائيلية الباطلة ، وأنه لم يسلم أحد من التحديث بهذه البواطيل حتى الصحابة وكبار التابعين والله المستعان
وهذا الطاعن في تفسير الطبري ينصح بتفسير الزمخشري لأنه كان لا يحترم السلف ويطعن فيهم فهو القائل في عبد الله بن عمرو : ( أما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث)
فرد عليه الشوكاني في فتح القدير بقوله (3/488) :” وأما الطعن على صاحب رسول الله ، وحافظ سنته ، وعابد الصحابة ، عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، فإلى أين يا محمود ، أتدري ما صنعت ، وفي أيّ واد وقعت ، وعلى أي جنب سقطت؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان ، وتتناول نجوم السماء بيديك القصيرة ، ورجلك العرجاء ، أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف ، والتكلم بما لا تدري ، فيالله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية ، والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ، ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه “
وقال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد وهو يتكلم عن قصة تسمية آدم وحواء لابنهما ب( عبد الحارث ) :” وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف تبين قطعا أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام فإن فيه غير موضع يدل على ذلك والعجب ممن يكذب بهذه القصة وينسى ما جرى أول مرة ويكابر بالتفاسير المبتدعة ويترك تفاسير السلف وأقوالهم وليس المحذور في هذه القصة بأعظم من المحذور في المرة الأولى”
فيبدو أن هذا الداء قد ظهر في عصره
وقال صالح آل الشيخ في شرح التوحيد :” حتى قال الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: فإن نسبة ذلك إلى غير آدم وحواء هو من التفاسير المبتدعة. والذي يعرفه السلف أن الضمير يرجع إلى آدم وحواء، وسياق الآية لا يقتضي غير ذلك إلا بأوجه من التكلف، ولهذا قال الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله اعتمد هذا الذي عليه عامة السلف ففسر هذه الآية بأن المراد بها آدم وحواء”
وكتب التفسير من أوضح الكتب عبارةً إذ أنها مبنية على التوضيح
والكلام ذو شجون غير أنني أكتفي بالإشارة المفهمة للبيب وأما من نشأ على شيء ولم يرد مفارقته فهذا لا حيلة لنا فيه
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم