هذه الآية حار فيها كثير من الناس، وظنها جماعة من المعطلة مبرِّراً لتأويلاتهم.
فمن المفسرين من قال: {كل شيء هالك إلا وجهه} بمعنى: إلا هو سبحانه.
ومنهم قال: إلا ما أريد به وجه الله.
ولا تعارض بين التفسيرين، وفي كليهما تثبيت للصفة، لا كما يظن من ضاق فهمه.
فالناس يقولون: (هذا لوجه الله) و(هذا أريد به وجه الله) ويُراد بهذا حقيقة الرؤية -وإن غفل كثيرون ممن يقولونها عن استحضار هذا- فهم يريدون الثواب، والثواب الجنة، وأعلى ثواب الجنة رؤية وجه الله عز وجل.
قال النبي ﷺ: «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك».
فحقاً كل شيء فانٍ إلا ما أريد به وجه الله، وما أريد به وجه الله يُدخل الجنة، وفي الجنة يرى المؤمنون وجه الله عز وجل ويتلذذون برؤيته، وهذه أعلى أماني أهل الإيمان.
وفي الحديث: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه».
وفي عرصات يوم القيامة يتبع كل عابد ما كان يعبد في الدنيا، ويبقى أهل الإيمان حتى يسجدوا لله عز وجل.
وهذا من باب إطلاق الخاص وإرادة العام، كما في قول إخوة يوسف: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين}.
فهذا لا ينفي أن لأبيهم وجهاً وأنهم يريدونه كله، فوجهه لا ينفك عن بقية أعضائه؛ ولكن خصَّصوه بالذكر لأنه محل البشاشة، وأول ما ينظر إليه الأبناء من أبيهم إن رأوه.
وكذلك قوله تعالى: {فتحرير رقبة} لا ينفي تحرُّر بقية الأعضاء؛ ولكن خُصِّصت الرقبة بالذكر لأن العبيد كانوا يقيَّدون من أعناقهم في الحروب أو تُغل أيديهم إلى أعناقهم، فيكون تحريراً من الحال الأصل وتبعاته وما شابهه.
قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية»: “النصوص الدالة على الصعود إلى الله تعالى فإن الصعود إلى الله تعالى نوع من القرب وكما أن دلالات النصوص على ذلك من أعظم المتواترات فالعلم بها أيضاً مستقرٌ في فطرِ المسلمين عامتهم وخاصتهم كما استقر في فطرهم أن الله فوق كلهم مقرون بأن العبد قد يتقرب إلى الله وأن العباد منهم المقرب وهو الذي يقربه الله عز وجل إليه ومنهم الملعون الذي يبعده الله عز وجل عنه وكلهم يسمون الطاعات قربات ويقولون إنا نتقرب بها إلى الله وليس فيهم من ينكر بفطرته التقرب إلى الله إلا من غُيرت فطرته بنوع من التجهم والتعطيل”.
فحمل ابن تيمية قولهم: (تقربت إلى الله) على القرب الحقيقي في الجنة من الله، والجنة في عليين وسقفها عرش الرحمن.
وما قيل في لفظ التقرب يقال في لفظ (أريد به وجه الله).