الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:


أعلم ان الكتابة في هذا الموضوع ينفر منها كثيرون ويرون أننا ننشغل عما هو أهم ولكنك إن أكملت القراءة للنهاية ستعلم أنني أتكلم في موضوع مفصلي له علاقة بعامة ما نعايشه من قضايا في الصراع الفكري

الأشعرية تاريخياً ليست فرقة واحدة في الحقيقة وإنما هي أشعريات أشعري أبي الحسن نفسه والباقلاني والأشعرية الفوركية التابعة لابن فورك والتي أظهرت شيئاً من الجفوة لأخبار الآحاد التي لا أصل لها في القرآن ثم الأشعرية الجوينية التي اقتربت جداً من المعتزلة ثم الأشعرية الغزالية وآخرها الأشعرية الرازية وهذه أشدها جفوة مع النصوص وصراحة في الاقتراب من الجهمية الأولى ، وعامة الأشاعرة اليوم على الأشعرية الرازية والتي ابن تيمية في غالب أحواله لم يكن يستجيز تسميتها أشعرية لكونها أقرب إلى الجهمية الأولى منها إلى الأشعري وما يثني الشيخ في غالب أحواله على واحدة من الأشعريات القديمة إلا في سياق الحط على هذه الأشعرية وبيان أنها ما اكتفت بمخالفة السلف حتى خالفت أسلافها من المتكلمين والشيخ له تصريحات خطيرة جداً حول هذا النوع من الأشعرية سيتفاجأ كثيرون عند قراءتها

وتراث ابن تيمية ضخم جداً وهو كثير التنزل والإلزام والاسترسال وله تعاملات مصلحية في سياق الدعوة والتألف لا تقرير حكم المخالف هذه الأمور كلها جعلته غرضاً للتلاعب والتشويه فكثير من الباحثين ينطلق من فكرة مسبقة ثم يريد أن يحمل الشيخ عليها قسراً حتى صاروا يحملون كلامه في الباقلاني على الأشعرية الرازية ، وهذا سمت دائم في عموم الأبحاث العصرية والتي تتكيء على الشيخ وأنا أزعم أنه لا يكاد يوجد معاصر يترسم الشيخ حرفياً بما فيهم كاتب هذه السطور ولكن الشجاعة أنك إذا خالفته تقول انا أخالفه لا أن تحرف كلامه أو تجتزيء مواقفه لتخدم ما تريد وحقيقة فهم منهج الشيخ الإصلاحي يحتاج منا إلى وقت طويل نطرح فيه أهواءنا المسبقة التي اكتسبناها من تحزباتنا وخصوماتنا ثم ننظر على جهة الانصاف لا التربص ولا محاولة عسف الكلام على المقدمات النفسية

وقبل أن نقف مع بعض كلام الشيخ عن الأشعرية الرازية ونربطه بمعركتنا اليوم العلمانية لنأخذ هذه الرواية

قال الخلال في السنة 1734- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ الْبَزَّارِ , يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْمِرِّيسِيِّ , فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ , أُذَاكِرُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ , فَكُلَّمَا ذَكَرُوا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَدْتُهُ . قَالَ : يَقُولُونَ : أَنْتَ كَافِرٌ . قَالَ : صَدَقُوا . إِذَا ذَكَرُوا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَرَدَدْتَهُ , يَقُولُونَ : أَنْتَ كَافِرٌ . قَالَ : فَكَيْفَ أَصْنَعُ . قَالَ : إِذَا ذَكَرُوا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ : صَدَقْتَ , ثُمَّ اضْرِبْهُ بِعِلَّةٍ , فَقُلْ : لَهُ عِلَّةٌ.

هنا بشر المريسي رأس الجهمية في عصره والذي كفره عامة السلف لأنه كان مشتغلاً بالفقه أقر بأن رد الحديث كفر أكبر وعلم صاحبه حيلة يحتال بها على أهل الحديث ولا زال كل من لا يعجبه حديث يتطلب له علة ما كان ليتطلبها لولا نفرة قلبه من الحديث ، الأشعرية المتأخرون خصوصاً الرازية منهم لا يقفون عند رد حديث او حديثين بل يقولون كل أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة فهم ينطبق عليهم الكلام السابق بشكل أكبر ويكونون من هذا الوجه أشر من المريسي ، بل الرازي صرح بأن كل المنقولات حتى التي في القرآن لا تفيد اليقين إلا بشروط عسيرة ويقول في المعقولات أنها تفيد اليقين فقدمها مطلقاً فخرج حتى مما التزمه المريسي من إيجاد علة

وكون المعتزلة أكثر تعظيماً للنصوص من الرازي وأبناء مدرسته هذا أمر لاحظه ابن تيمية وسجله

قال شيخ الإسلام درء التعارض (5/328) : “وهذا الذي ذكرناه من أن هذا الأصل يوجب عدم الاستدلال بكلام الله ورسوله على المسائل العلمية قد اعترف حذاقهم به بل التزمه من التزمه من متأخري أهل الكلام كالرازي كما التزمته الملاحدة الفلاسفة وأما المعتزلة فلا يقولون الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون لا يحتج بالسمع على مسائل التوحيد والعدل لأن ذلك بزعمهم يتوقف العلم بصدق الرسول عليه، وكذلك متأخرو الأشعرية يجعلون القول في الصفات من الأصول العقلية”.

هذه واحدة وخذ الأخرى

وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى :” فَتَجِدُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ يَطْعَنُ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ عَلَى الْيَقِينِ وَفِي إفَادَةِ الْأَخْبَارِ لِلْعِلْمِ. وَهَذَانِ هُمَا مُقَدِّمَتَا الزَّنْدَقَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ”


هنا يصرح أيضاً أن كلامه هو مقدمة الزندقة ولو تأملت في مشاريع دعاة التنوير من علمانيين ومنكري للسنة لوجدت أنهم يدورون على هذا المعنى عدم إفادة الألفاظ لليقين ولو بفهم السلف وإجماعهم وعدم إفادة الأخبار للعلم ولو احتفت بها القرائن وبالتالي تصير الشريعة هشة جداً أمام الأهواء ولهذا حذرهم ابن رشد الفيلسوف من أنهم إذا أنكروا العلو وهو اظهر ما في الشريعة وأعملوا فيه معاول الهدم صارت بقية الشريعة ضعيفة

يوضح الأمر أكثر هذا النقل عن ابن الصلاح الذي نقله ابن تيمية مقراً

قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية :” وقد كان الثقة يحدث عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه لما رأى قوله _ يعني الرازي _ إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين لعنه على ذلك وقال هذا تعطيل الإسلام وقد بسط هذا في مواضع والمقصود هنا أن يتبين أن دعواه أن كل دليل سمعي موقوف على مقدمات ظنية دعوى باطلة معلوم فسادها بالاضطرار”

لاحظ ( مقدمتي الزندقة ) و ( هدم للإسلام ) وهذا كالنذارة مما كان سيحصل في الأمة هذه الأزمنة فلو لاحظت أن القوة كانت بيد من تأثر بهذه الأفكار فقدر النص ضعيف في قلوبهم فقبلوا التغريب وهزموا قلبياً قبل أن يهزموا عسكريا ، ولا تجد أشعرياً يحاول الدفاع عن الشريعة إلا ويهمل أصوله هذه كما فعل الرازي نفسه حين ناقش المعتزلة في الرؤية صرح بتقديم النقل على معقولاتهم التي لم يستطع دفعها على أصوله

ولاحظ في زماننا من أكثر الناس تأثراً بنظرية التطور الموجه أليسوا القوم أنفسهم وذلك أن المقدمات التي تجعل النص عظيماً في القلوب كلها مهدومة عندهم فلا يعقل أن تتحدث عن دور عدنان إبراهيم وشحرور في جلب الشباب لإنكار السنة ومن ثم الإلحاد وتهمل هذا

وقال ابن تيمية في الحموية :” فَلَمَّا ابْتَنَى أَمْرُهُمْ عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الكفريتين الْكَاذِبَتَيْنِ : كَانَتْ النَّتِيجَةُ اسْتِجْهَالَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ واستبلاههم وَاعْتِقَادَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا أُمِّيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْعَامَّةِ ؛ لَمْ يَتَبَحَّرُوا فِي حَقَائِقِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَتَفَطَّنُوا لِدَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَأَنَّ الْخَلَفَ الْفُضَلَاءَ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ فِي هَذَا كُلِّهِ”

مقدمة أن السلف لم يفهموا الشريعة وإنما كانوا يروون ألفاظاً وأن المتأخرين أعلم منهم أليست هذه المقدمة التي تنطلق منها كل الحركات التنويرية ؟

ولما استقر في قلوبهم أنهم أعلم من السلف فجاء غربي فهزمهم وهم الأعلم والأحكم اتبعوه وكفروا بما عند السلف وهذا كما حصل لبعض المماليك الذي تأثر ببعض أحكام الياسق التتري بعد المد التتري في المنطقة وتأمل قول ابن تيمية ( الكفريتين )

ومن الغلط أن تقيس الخلاف مع الأشعرية خصوصاً الرازية على بقية الفرق فابن تيمية نبه على أن الخلاف معهم يختلف لأن الفرق كلها متفقة على احترام النصوص بخلاف هؤلاء القوم _ وإن كان التجهم عم في كثيرين من الخوارج والروافض اليوم _

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى :” ” فالْجَهْمِيَّة ” الْنُّفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجُ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ؛ لَا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ؛ بَلْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوِّلٌ أَوْ مُفَوِّضٌ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصِ؛ كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إلَّا الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ النَّفْيِ”

ومعلوم أنه هنا يتكلم عن الأشعرية المتأخرة

بل وصرح أن السلف ذموا نفاة العلو بأكثر مما ذموا به كل الطوائف الأخرى قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (2/45) :
” ولا يقدر أحد ان ينقل عن أحد من سلف الامة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا شيئا من عبارات النافية أن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا انه لا داخل العالم ولا خارجه ولا ان جميع الامكنة بالنسبة اليه سواء ولا انه في كل مكان او انه لا تجوز الاشارة الحسية اليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة لان يكون فوق العرش لا نصا ولا ظاهرا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم
وإذا كان كذلك فليعلم ان الرازي ونحوه من الجاحدين لان يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها”

والكلمة التي يلبس بها بعض الناس على العوام أنه قال عنهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة فهو كان يتكلم عن الأشعرية الأولى وقصد أنهم أقرب طوائف الجهمية النفاة إلى أهل السنة وليس مطلقاً فهو يرى أن السالمية والكرامية بل وحتى المشبهة أقرب إلى العقل والسنة منهم وكلامه في هذا لا يدخل في الحصر


ولما عرضوا استشهادي بكلام ابن تيمية في مقدمة التسعينية والذي صرح به بتكفير بعض أعيان الأشاعرة وكان يجهر لهم بذلك ويرفع صوته به على شخص يدعي أنه أحد أعلم ثلاثة على وجه الأرض بكلام ابن تيمية قال أن الشيخ كان هنا غاضباً مع أن الحادثة لا ينقلها شخص آخر بل الشيخ نفسه يكتبها بعد ذلك المجلس بعدما هدأت أعصابه ثم ألا يعلم هذا الشخص أنه كان يعتبرهم جهمية وأنه هو نفسه قال أن عذر الإمام أحمد لبعض الجهمية _ ودعواه هنا مناقشة _ لا يناقض تكفيره لبعض أعيانهم الآخرين لأنه قد توفرت الشروط وانتفت الموانع وأن من جعل كلام أحمد روايتين لم يفقه الأمر على وجهه

وأيضاً ألا يعلم أن في مناظرة الشيخ على الواسطية أحضر نص ابن الوكيل في تكفير من يقول القرآن مخلوق وغضب أشعري وقال هذا يكفر أئمتنا وذكر أن الجويني بخلق القرآن

ألا يعلم أيضاً أن الشيخ حين قال أن المخالفين لطريقة أهل الحديث زنادقة منافقون بلا ريب كان يتحدث عن شمس الدين الأصفهاني وهو أشعري

ألا يعلم أن ابن تيمية في النبوات بعدما ذكر كلام عدد من كبار الأشعرية وتعقبه نقل قول الإمام أحمد علماء الكلام زنادقة . منزلاً لهذا الكلام عليهم

وباختصار إذا قلنا أننا نعيش معركة نص نقف فيها في مقابل التنويريين والعلمانيين والملاحدة الصرحاء فأين سيكون الأشاعرة في الواقع سيكونون مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء والمحاولة للاستفادة منهم في هذه المعركة كمحاولة الاستفادة من المنافقين في قتال الكفار فلا ضرورة لهم ولو خرجوا ونفعوا فإنما ينفعون أنفسهم

وعلى ذكر المعركة قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى :” حَتَّى إنَّ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي بَلَغَتْنَا: أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الصَّلَاحِ أَمَرَ بِانْتِزَاعِ مَدْرَسَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَقَالَ: أَخْذُهَا مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ أَخْذِ عَكَّا. مَعَ أَنَّ الْآمِدِيَّ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي وَقْتِهِ أَكْثَرَ تَبَحُّرًا فِي الْعُلُومِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ مِنْهُ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ إسْلَامًا وَأَمْثَلِهِمْ اعْتِقَادًا “

قال شيخ الإسلام كما في جامع المسائل تحقيق محمد عزيز شمس المجموعة الثامنة ص137:
” فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدتهم يعبدون كل شيء.
في مبدأ دولة التتار « ابن الخطيب » متكلم المعطلة الجهمية والزنادقة _ هو الرازي _.
و« ابن العربي » متصوفهم وعارفهم فاتفقا على جحد رب العالمين الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل
واختلفا بعد ذلك. فالأول: أثبت العالم؛ لكن بالكلام الباطل
والثاني: أثبت العالم، لكن بالعقل الفاسد.
فتدبر هذا واجمعه مع ما قدمته من القواعد يتبين لك الأمر. والله أعلم”

والأشعرية اليوم يغلب عليهم تعظيم ابن عربي والصوفية الغالية والتأثر الفاحش بالمد التغريبي