عالم الغيب يريد الغيب (مبحث الإخلاص وعلاقته بإثبات النبوة والرد على المرجئة)

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

حديث:

«الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

صحيح مسلم 1907

كثيراً ما يُطرق وتُعدَّد فوائده، وعلى كثرة ما يتكلم عنه الناس تشعر أن فيه بقية إفادة مغفول عنها.

قال تعالى:

{عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير} [الأنعام].

علم الغيب مع مبحث الإخلاص أعدُّه من دلائل النبوة، وذلك أن النبوات الكاذبة والفلسفات الإصلاحية يكون تركيزها على النتيجة الظاهرة فحسب، بينما الدين المنزل من الله عز وجل يكون حق الله فيه فوق كل شيء، فيُطلب الإخلاص من العبد وليس العمل الصالح فقط.

فلو تصدَّق رجل بألف دينار وكان مرائياً ما أُجر على ذلك، بل هو آثم ولو انتفع الفقير بصدقته.

ولو تصدَّق رجل بنصف دينار وهو مخلص أثيب على ذلك.

هذا فُرقانٌ بين ما جاء من الله، فالحق الأعظم فيه لله، وما جاء عن غير الله، فالحق الأعظم فيه لغير الله.

وكثير من الشبهات جاءت من غفلة عن هذا الأصل، وليس معنى هذا أنه لا حقوق للناس في الشرع، بل لهم حقوق ولا تحصل لهم حقوق بمثل الشرع، غير أن المراد: أن حق الله تبارك وتعالى أعظم، بل حق البشر متضمن في حقه سبحانه، ولا تستقل للبشر حقوق عن حقه، وله حقوق تستقل عن حقوق البشر، كأمر الصلاة.

والإخلاص معنى قلبي ودلت الشريعة على تفاوته في الناس، وفي هذا رد على المرجئة الذين أنكروا تفاضل التصديق القلبي، فإذا ثبت تفاوت الإخلاص ثبت تفاوت غيره من الأعمال القلبية.

فإن قيل: ما الدليل على تفاوت الإخلاص في القلب؟

فيقال: الدليل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفيه «ورجل تصدق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

فهذا فضل صدقته على صدقات الآخرين -وإن كانت مقبولة- أنه كان أشد إخفاءً لها من غيره، وهذه زيادة إخلاص، وفي الحديث من الرد على المرجئة أيضاً: ثبوت تلازم الظاهر مع الباطن، فهذا شدة إخلاصه ظهرت على جوارحه.

ومن عقائد أهل السنة أنهم لا يشهدون على مسلم -مهما عظم صلاحه- بجنة ولا نار إلا من شُهد له بالنصوص، ومن مآخذ ذلك: أن الإخلاص لا يعلم به إلا الله، وذلك باب خفي يرفع الله به أقوام ويخفض به أقوام يوم القيامة، حتى الواعظ الذي يعظ الناس بالإخلاص لا يرى أثر دعوته كما لو دعاهم إلى أمور ظاهرة غير ذلك، وإنما يتلمَّس أثر ذلك تلمُّساً ولا يقف على يقين.

ومما استُدل به على المرجئة حديث: «الطهور شطر الإيمان» لأنه يُثبت التفاوت في الإيمان، وهذا له علاقة بالإخلاص، فالطهارة انتقاضها أمر خفي، فمن كان مرائياً قد ينتقض وضوءه ولا يجدِّده اتكالاً على أن الناس لا يعلمون، فاتصال الإخلاص بباب الإيمان عجيب.