حينما رد البخاري على الأشاعرة في الكلام النفسي
قال البخاري في صحيحه: “باب الطلاق في الإغلاق والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره”
ثم سرد عدة آثار وأورد بعدها هذا الحديث:
“5269 – حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» قال قتادة: «إذا طلق في نفسه فليس بشيء»”.
قال ابن تيمية في التسعينية: “وأصل هذا الخطأ أن المعتزلة قالوا: إن القرآن بل كل كلام هو مجرد الحروف والأصوات، وقلتم أنتم: بل هو مجرد المعاني، ومن المعلوم عند الأمم أن الكلام اسم للحروف والمعاني، للفظ والمعنى جميعًا كما أن اسم الإنسان اسم للروح والجسد، وإن سمي المعنى وحده حديثًا أو كلامًا أو الحروف وحدها حروفًا أو كلامًا فعند التقييد والقرينة، وهذا مما استطالت المعتزلة عليكم به، حيث أخرجتم الحروف المؤلفة عن أن تكون من الكلام، فإن هذا مما أنكره عليكم الخاص والعام، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به” قال له معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: “ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم؟” وشواهد هذا كثيرة.
ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحدًا مفردًا، هو الأمر بكل ما أمر الله به، والخبر عن كل ما أخبر الله به، وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه، وقالوا: إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح المعقول، وأنتم تنكرون على من يقول: إن الله يتكلم بحروف وأصوات قديمة أزلية، ومعلوم أن ما قلتموه أبعد عن العقل والشرع من هذا”.
أقول: شرح الربط بين قول البخاري وقول ابن تيمية أن الكلابية وتبِعَهم الأشاعرة والماتردية يقولون إن كلام الله نفسي ليس بحروف ولا أصوات ولا فيه تعاقب، يريدون نفي أنه فعل اختياري وله بداية ونهاية لأنهم ينفون أن الله عز وجل يفعل أفعالًا تقوم بذاته.
فكان مما أورد عليهم الشيخ أن الكلام لا يسمى كلامًا إن لم يكن حروفًا ومعاني، ولهذا لو طلَّق الرجل في نفسه أو أرجع امرأته في نفسه فليس ذلك كلامًا معتبرًا عند الفقهاء.
علمًا أن كلام البشر النفسي أو ما يزورونه في أنفسهم له بداية ونهاية، وهذا مما لا يثبته الأشعرية في كلام الله بل يقولون هو معنى واحد، فلا يثبتون له بداية ونهاية حتى لا يثبتوا الفعل الاختياري.
ومن الطرائف أن بعض الفقهاء المتأخرين تأثُّرًا بأشعريتهم أثبتوا الطلاق بالكلام النفسي أو الإرجاع بالكلام النفسي، والعامة لا يثبتونه.
جاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: “وأما النية وحدها فإن كانت بمعنى القصد فلا تحصل بها رجعة اتفاقًا وإن كانت بمعنى الكلام النفسي فقيل تحصل بها الرجعة في الباطن لا الظاهر، وقيل لا تحصل بها مطلقًا”.
ويدفع هذا القول ما أورده البخاري في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقوله “أو تتكلم” فجعل الكلام مقابلًا لحديث النفس وقسيمًا له.