حقائق عن السيرة النبوية لا يعلمها كثير من الناس

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

حقائق عن السيرة النبوية لا يعلمها كثير من الناس

بمناسبة حديث بعض أدعياء التنوير عن السيرة النبوية وردود بعض الفضلاء عليهم، أود أن أنبه على بعض النقاط المتعلقة بأمر السيرة النبوية، فقد كانت لي تجربة في تدريس كتاب السيرة لابن هشام، والقوم عادةً يستغلُّون عدم اطلاع الناس على المصادر فيشككونهم، ولو اطلعوا لبصقوا في وجوههم، وإليك الحقائق.

الحقيقة الأولى: لو نظرت في كتاب «السيرة» لابن هشام لوجدت أنه أحد مصادر التفسير، وما أكثر ما يستشهد بآيات قرآنية، وذلك أن عامة أحداث السيرة الكبرى مذكورة في القرآن.

فخذ مثالاً: حادثة الهجرة، الآيات التي تذكر المهاجرين عديدة، وذكر هجرته ﷺ مع أبي بكر وارد في قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة].

وحال المهاجرين والأنصار وما كان بينهم من الألفة مذكور في قوله تعالى: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال].

وحال النجاشي الذي هاجر إليه الصحابة مذكور في قوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (٨٢) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} [المائدة].

وإيمان عبد الله بن سلام وغيره من اليهود بالنبي ﷺ مذكور في قوله تعالى: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء].

وما حصل قبل الهجرة من انشقاق القمر وأذية المشركين مفصَّل معلوم.

وأما غزوة بدر فمذكورة في آيات عديدة {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} [الأنفال].

وأيضاً ما حصل بعد غزوة بدر في شأن الأسرى، وما حصل قبلها من إنزال الملائكة، وأما غزوة أحد وما أصاب المسلمين فمذكور أيضاً في القرآن {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران] وغيرها من الآيات التي اتفق الناس أنها في أُحد. 

وأما يوم الخندق (يوم الأحزاب) ففي القرآن سورة كاملة اسمها الأحزاب، وفيها ذكر الأمر.

وأما صلح الحديبية والبيعة تحت الشجرة فكل ذلك مذكور {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح].

وأما أحوال النبي ﷺ مع اليهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع فكله مذكور، فبنو قريظة في قوله تعالى: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} [الأنفال] وقوله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب} [الأحزاب].

وأما بنو النضير فما ذُكر في شأنهم في سورة الحشر.

وأما بنو قينقاع ففي قوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم} [الحشر].

وأما فتح مكة ففيه سورة الفتح وسورة النصر وغيرها.

وأما غزوة حنين فقوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين} [التوبة].

وأما غزوة تبوك فقوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم} [التوبة].

وهذه نماذج من الأحداث الكبرى، وإلا فيوجد أحداث تفصيلية أكثر، كأحوال النبي ﷺ مع أزواجه وحادثة الإفك وغيرها، فإن السيرة النبوية عند علماء السيرة لا تُعنى بكل تفاصيل حياة النبي ﷺ وإنما تُعنى بالأحداث العامة، خصوصاً الغزوات وما يليها، وأما تفاصيل الأحكام والآداب فبابها كتب الحديث.

الحقيقة الثانية: أن عامة المغازي والأحداث موثَّقة بأشعار معروفة، وإن شُكِّك في بعضها فلا مجال للتشكيك فيها كلها، والأشعار باب العرب للتوثيق.

الحقيقة الثالثة: أن السيرة فيها أمور تحمل نقصاً على كثير من القبائل، مثل ذكر تأخرهم عن الإسلام وقتالهم لرسول الله ﷺ، وأمور تحمل فخراً لقبائل أخرى، مثل مسارعتهم إلى النبي ﷺ.

والعرب يتفاخرون، والناس يتحاسدون في مثل هذه السياقات، فلو كان هناك مجال للتشكيك في السيرة في أحداثها الرئيسية لسعى كثير من الناس بذلك من باب الحسد لمن ذُكر في السيرة بخير من القبائل أو من باب درء المعرة عن قومه.

الحقيقة الرابعة: أبو سفيان رأس الأمويين يظهر في السيرة أنه محارب للنبي ﷺ متأخر الإسلام، والإسلام يجبُّ ما قبله، والعباس رأس العباسيين يظهر أنه من أسرى بدر ومتأخر الإسلام عن غيره، وذرية هذا وذرية ذاك كانوا ملوك الإسلام الأوائل، فلو كان هناك مجال للتزوير التام لفعلوا، ورفعوا من شأن متقدميهم وحطوا من شأن أسلاف خصومهم السياسيين.

الحقيقة الخامسة: أن سيرة ابن إسحاق لم تكن السيرة الوحيدة في الزمن القديم، فأقدم كتب المغازي هي مغازي عروة بن الزبير، الابن المباشر للصحابي المبشر بالجنة: الزبير بن العوام، وهناك مغازي موسى بن عقبة، وهو ثقة اتفاقاً وأعلى سنداً من ابن إسحاق، وهناك مغازي للزهري شيخ ابن إسحاق.

قال ابن تيمية في «منهاج السنة»: “ولو كان لمعاوية من الذنوب ما كان لكان الإسلام يجب ما قبله، فكيف ولم يعرف له ذنب يهرب لأجله، أو يهدر دمه لأجله؟! وأهل السير والمغازي متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أهدر دمه عام الفتح. فهذه مغازي عروة بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي، ومحمد بن عائذ“.

فإن قيل: هذه المغازي لا وجود لها اليوم.

فيقال: بل وُجدت قطع منها، وهي مفرقة في كتب أهل العلم، فعلى سبيل المثال: لو فقدنا موطأ الإمام مالك فإننا لن نفقد مروياته، لأن أصحاب الكتب الستة وغيرهم رووا أحاديث الموطأ من طريق مالك بشكل متواتر، وهذا الذي حصل مع أصحاب المغازي وكانت رواياتهم متطابقة.

فالحديث عن نسخة أصلية حديث عبثي مع هذه المعطيات.

وعلى ذكر مالك -وهو قرين ابن إسحاق- ستجد أنه في الموطأ ذكر العديد من أخبار السيرة في سياق الاستنباط الفقهي، ولا يخلو كتاب في التفسير أو الفقه أو الحديث أو الآداب من ذكر بعض أخبار السيرة بحسب المقصود منها.

وعليه: لو أسقطتَ سيرة ابن إسحاق من الأساس فعندك من الكتب الأخرى في المغازي والسيرة والتفسير والحديث والفقه ما يجمع لك سيرة متكاملة، فما بالك وهي قائمة، فحتى ما فيها من المراسيل يحتملها أهل العلم، لأنها غالباً تكون حكاية تفاصيل لقضايا ثبت أصلها ببراهين قطعية، وقد أثنوا على سياقته للسيرة، وابن إسحاق جمَع سيرته من أستاذه الزهري وزاد عليه، ومغازي الزهري معروفة عند أهل العلم في الأزمنة المتقدمة، والزهري أخذ من أستاذه عروة وزاد عليه، ومغازي عروة معروفة عند الناس آنذاك.

وموسى بن عقبة تتلمذ على الزهري أيضاً وزاد عليه.

وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن معن بن عيسى: “كان مالك بن أنس إذا قيل له مغازي من نكتب؟ قال: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة”.

المغازي يعني السيرة، وهذا يُبيِّن لك أن المصنِّفين في المغازي كانوا كثرة في زمن مالك (ومالك وابن إسحاق عاشا في زمن واحد).

والبخاري اعتمد في صحيحه موسى وما خرَّج لابن إسحاق شيئاً متصلاً، وكذا مسلم فعل.