قال البخاري في صحيحه [ 6306 ]:
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي
شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ
رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى
عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ
أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي
فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ
النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا
فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
قال شيخ الإسلام كما في جامع المسائل
(4/ 48) :” فقوله “أَبوءُ لك بنعمتك عليَّ” يتناولُ نعمتَه عليه في
إعانته على الطاعات، وقوله “أَبوءُ لك بذنبي” يُبيِّن إقرارَه بالذنوب
التي تحتاج إلى الاستغفار. والله تعالى غفور شكور، يَغفر الكثيرَ من الزلل، ويَشكر
اليسيرَ من العمل. وجاء عن غيرِ واحدٍ من السلف أنه كان يقول: إنّي أُصبِحُ بين
نعمة وذنب، فأريد أن أُحْدِث للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا”
واعلم – رحمك الله – أن ركني اليقظة
مشاهدة النعمة مع مشاهدة التقصير في جانب الله عز وجل
وهما اللذان وردا في حديث سيد الاستغفار
(أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي
فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ(
قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(
فالله عز وجل سخر كل ما في هذا الكون
للآدمي ، على أن يوحد ويستقيم
قال الله تعالى : ( وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون (
ولهذا تفنى الأرض إذا لم يبق فيها من
يقول ( الله الله ) لأن الإنسان إنما خلق للتوحيد ، وكل ما في السماوات والأرض
مسخر له ، فإذا فني أهل التوحيد استحقت الأرض الفناء فهم أمان أهل الأرض لأنهم
قاموا بالغاية التي من أجلها خلقوا وسخر ما في السماوات والأرض لبني آدم
والمتأمل في سورة النحل يجد ما فيها من
تعداد النعم ، بما يقيم الحجة على كل مشرك وفاجر
قال الله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ
مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ
حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ
لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِن رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ)
فتأمل نعمة الله عز وجل علينا في هذه
الأنعام ، فمن ذلك أننا نركبها وتحملنا إلى بلد لسنا بالغيه إلا بشق الأنفس
وقد من الله عز وجل علينا بما هو أعظم
من ذلك تلك السيارات وهي أسرع بكثير من الأنعام فتلك النعمة التي منها الله عز وجل
على سلفنا ، قد من علينا بما هو أعظم
فهل كان شكرنا أعظم من شكرهم ، أم أننا
نسخط النعمة على عظمها حتى أحدنا ليتأفف إن لم تكن مركبته مكيفة ، وتلك الدواب
التي امتن الله بها على سلفنا ما كانت مكيفة
أفرأيت عظم نعمة الله علينا
ثم من نعمة علينا أنه جعل لنا منها
دفئاً يعني ملابس ، ثم إننا نأكل منها لحماً طيباً وتحمل أثقالنا
ولو شاء الله لجعلها متوحشة لا يمكننا
استخدامها ، ولكن من نعمته أنه ذللها لنا سبحانه ، على كبر خلقها وقوة أجسامها
ومن نعمته علينا ما نشرب من ألبانها
قال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ)
فهذه النعمة وحدها كافية ، فلا يوجد في
أعمالنا ما يضاهيها ، وما يوجد في آلهة المشركين من يملك عشر هذا ولا ينعم بمعشار
معشاره
ثم قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ)
فهذه نعمة المطر ونعمة أثر هذا المطر من
الخيرات ، ثم نعمة تنوع الثمرات ولو شاء الله لجعلها صنفاً واحداً
والمطر لا يأتي به إلا الله ، ومع كل من
يشرك ويسب الله ومع كل من يعصيه ينعم على العباد
قال مسلم في صحيحه 7182- [49-2804]:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، وَأَبُو أُسَامَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ
، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ،
عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ
، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ
وَيَرْزُقُهُمْ.
أفرأيتم عظيم نعمة الله علينا ، وعظيم
حلمه ورحمته
ثم قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ
بِأَمْرِهِ إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
وتسخير الشمس والقمر والنجوم من أعظم
نعمه سبحانه وتعالى ، فجلعها إنارة وزينة وهدى يهتدي به المسافرون
ولو شاء الله لقرب الشمس حتى تحرق جميع
البشر ، ولو شاء لأبعدها حتى ينقطع نفعها ، ولكنه من رحمته تركها على هذه الحال
بياناً لقدرته ورحمته وحلمه وفضله سبحانه وتعالى
ثم قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
فهذه نعمة البحر وما أخرج منه من اللحم
الطري والحلية ، ومن نعمته استقرار السفن في ماء البحر ولو شاء الله لأمر هذا
البحر فهاج علينا فأهلكنا ، ولو شاء سبحانه ما استقرت السفن فيه ولكن بمنه وكرمه
يأتي عدو من أعدائه فيركب البحر ولو شاء الله لأمر البحر فابتلعه ولكنه سبحانه
يمهل ، ويعفو عن كثير
ثم قال تعالى : (وَأَلْقَى فِي
الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ)
فهذه نعمة الجبال ونعمة الأنهار فهذه
الجبال تثبت الأرض ولو شاء عز وجل لما جعل الأرض ثابتة هذا الثبات
ثم بعد تعداد هذه النعم التي يشترك فيها
المسلم والكافر
قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِن اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)
ثلاث آيات البيان فيها قوي جداً
ففي الآية الأولى يبين سبحانه أن الذي
أنعم به النعم كيف يسوى به خلق خلقه ، فيشرك به في عبادته وهذا المخلوق لا يملك
شيئاً ولا ينعم بشيء ، فكيف يسوى المالك المنعم بالمخلوق الفقير المنعم عليه
وأما الآية الثانية ففيها أنكم لن تحصوا
نعمة الله إن عددتموها ، ثم ذكر المغفرة والرحمة كما في دعاء سيد الاستغفار
فبعد أن امتلأ قلب العبد بالمحبة لله
الذي أنعم عليه بهذه النعم ، وامتلأ قلبه بالرجاء بعد معرفته بربه الغفور الرحيم ،
جاء التخويف بإعلامك بأن الله يعلم ما تسر وما تعلن ، وهذا أيضاً يدعم الرجاء فإن
ذلك أدعى لئن تحسن ظاهرك وباطنك
هذه إيقاظة يسيرة ، عليك أن تأخذها
أنموذجاً في نعم الله عز وجل فالمسلم الإنعام عليك أعظم من الكافر والسني الإنعام
عليه من البدعي ، فلا يكونن أحد أشكر لله منك وقد أنعم بكل هذه النعم
شاهد النعمة وشاهد تقصيرك وهذب نفسك
بهذين الأمرين
واسع في شكر النعمة وشكرانها يكون بعدة
أمور نبه عليها شيخ الإسلام
قال ابن القيم في مدارج السالكين
(2/247) :” وهذا من أحسن اختصاره وكمال معرفته وتصوره قدس الله روحه قال :
ومعاني الشكر ثلاثة أشياء : معرفة النعمة ثم قبول النعمة ثم الثناء بها وهو أيضا
من سبل العامة أما معرفتها : فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها فمعرفتها :
تحصيلها ذهنا كما حصلت له خارجا إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري فلا يصح
من هذا الشكر قوله : ثم قبول النعمة
قبولها : هو
تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه
ولا بذل ثمن بل يرى نفسه فيها كالطفيلي فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة قوله : ثم
الثناء بها الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان : عام وخاص فالعام : وصفه
بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك والخاص : التحدث بنعمته
والإخبار بوصولها إليه من جهته كما قال تعالى : وأما
بنعمة ربك فحدث الضحى : 11 وفي هذا التحديث المأمور به قولان أحدهما : أنه ذكر النعمة والإخبار بها وقوله : أنعم الله علي بكذا وكذا قال
مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من
النعم عليك في هذه السورة : من جبر اليتيموالهدى بعد الضلال والإغناء بعد العيلة
والتحدث بنعمة الله شكر كما في حديث جابر مرفوعا : من صنع إليه معروف فليجز به فإن
لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلى
بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور
فذكر أقسام الخلق الثلاثة : شاكر النعمة
المثني بها والجاحد لها والكاتم لها والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها فهو متحل
بما لم يعطه وفي أثر آخر مرفوع : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر
الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب
والقول الثاني : أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله وتبليغ
رسالته وتعليم الأمة قال مجاهد : هي النبوة قال الزجاج : أي بلغ ما أرسلت به وحدث
بالنبوة التي آتاك الله وقال الكلبي : هو القرآن أمره أن يقرأه
والصواب : أنه
يعم النوعين إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها وإظهارها من شكرها قوله :
وهو أيضا من سبل العامة يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل إذ جعل نصف الإسلام
والإيمان من أضعف السبل
بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه صلى
الله عليهم وسلم أجمعين أخص خلقه وأقربهم إليه ويا عجبا ! أي مقام أرفع من الشكر
الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل وغيرها فإن الشكر
لا يصح إلا بعد حصولها وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من
الشكر ولا أعلى ولكن الشيخ وأصحاب الفناء كلهم يرون أن فوق هذا مقاما أجل منه
وأعلى لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى وأنه شكر الحق على إنعامه ففي الشاكر بقية
من بقايا رسمه لم يتخلص عنها ويفرغ منها فلو فني عنها بتحققه أن الحق سبحانه هو
الذي شكر نفسه بنفسه وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل علم أن الشكر من منازل
العامة ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه فأخذ يشكر السلطان على ذلك
: لعد مخطئا مسيئا للأدب فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره فإن الشكر مكافأة
والعبد أصغر قدرا من المكافأة والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء
ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود وفي حقهم ما هو
أعلى منه هذا غاية تقرير كلامهم وكسوته أحسن عبارة لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير
الموجب للتنفير ونحن معنا العصمة النافعة : أن كل أحد غير المعصوم
فمأخوذ من قوله ومتروك وكل سبيل لا
يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك”
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم