تقسيم الأمم ثقافيا

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال أبو القاسم سعد الله (المتوفى: 1435 هـ) في (تاريخ الجزائر الثقافي) أو (الموسوعة الثقافية الجزائرية) (6/311) :” ارتبط اسم العرب في أذهان الأوروبيين بالإسلام. فإذا ذكر الإسلام ذكر معه العرب بالضرورة. وكان الفرنسيون هم ممثلي أوروبا في الجزائر منذ الاحتلال. فما يصدر عنهم ضد الإسلام ينصرف أيضا ضد العرب. وقد تكفلت الكنيسة الكاثوليكية بالهجوم على الدين الإسلامي ونبيه محمد في صوت لويس بافي، ولافيجري وأغلب القساوسة الذين معهما. كما تكفل معظم المستشرقين الفرنسيين بمهاجمة الإسلام وحضارته ولغته وتاريخه، وتولى ذلك ألفريد بيل وويليام مارسيه، دون ذكر رينان وماسينيون، الخ. أما العرب كجنس أو عرق فقد ناصبهم العداء، في الجزائر على الأقل، الدكتور وارنييه ومدرسته التي سنأتي عليها. والغريب أن وارنييه لم يتحرك في هذا الاتجاه إلا عندما تهددت مصالح الكولون، وهو منهم، خلال الستينات عندما أشيع أن هناك مشروعا لإنشاء مملكة عربية في الجزائر يتولاها الأمير عبد القادر نيابة عن الامبراطور نابليون، كما كانت المجر مملكة تابعة للنمسا ومصر الخديوية تابعة للدولة العثمانية. وقد نفهم من هذا أن هجوم الدكتور وارنييه على العرب إنما هو هجوم ظرفي وقائم على مصلحة ضيقة. فقد عايش وارنييه العرب طويلا قبل ذلك ومثل فرنسا لدى الأمير كقنصل في معسكر أيام صلح التافنة، وعاش حياته بعد ذلك في وهران وغيرها، وشارك في مؤلفات اللجنة العلمية، دون أن يكتب عن العرب بنفس الحدة التي كتب بها عنهم وهو يؤلف كتابه (الجزائر أمام الامبراطور) سنة 1865″

إلى أن قال : وانطلق د. وارنييه في حملته المعادية للعرب. فحكم أولا بخطإ النظرية الفرنسية السائدة عند الاحتلال، وهي أن الكلمة (العرب) مرادفة لكلمة (المسلمين). وبخطإ النظرية القائلة بأن العرب هم الذين فتحوا الأندلس وأن المجد الأندلسي مجد عربي. ورأى أن التراث العربي في الفلسفة والأدب والعلوم لا ينسب إلى العرب وحدهم. وطعن فيمن ينتسبون إلى الأشراف والمرابطين. وطالب حكومته بوقف (التعريب)، لأن في الجزائر شعبين وليس شعبا واحدا، وكذلك طالب بالاعتراف بثلاث لغات فيها وهي: البربرية للبربر الخلص، والجزائرية للبربر المتعربين، والعربية الدارجة للعرب. أما اللغة الفصحى فلا كلام عليها، وقال إن كلمة (القبائل) تطلق في الدارجة على كل البربر، لأن القبائل فرقة هامة منهم. والمقياس عنده، وعند من اقتنع بنظريته، في معرفة من هو العربي ومن هو البربري، هو مدى الإيمان بالحضارة الأوروبية والتقرب من الفرنسيين. فالبربر هم المتفتحون على هذه الحضارة وهم الحلفاء الطبيعيون للفرنسيين، والعرب هم المتزمتون والمتعصبون والمبتعدون عن حضارة الفرنسيين”

ثم قال :” وقد استمرت هذه الأطروحة بعد كاريت ووارنييه أيضا. فروج لها كتاب عسكريون تولوا مسؤوليات إدارية في مختلف أنحاء البلاد. وقد ذكرنا منهم أوكابان، وهانوتو، ثم جاء مدنيون وضربوا على نفس الوتر أيضا. ومنهم بوجيجا، وقوتييه، وماسكري. وانخدع بكلامهم بعض الجزائريين الذين تتلمذوا على أفكارهم، وأصبحوا يتحدثون عن الفوضى أو الخراب الذي كان قبل الفرنسيين، ثم عن الأمن والعمران الذي حصل بعدهم، وما درى هؤلاء الجزائريون أهم كانوا يلعنون أنفسهم وآباءهم وأجدادهم في سكرة من سكرات الإغواء الفرنسي”


ثم قال :” يعتبر المدح الذي قاله العقيد كاريت ود. وارنييه وغيرهما للبربر سبة لهم وحطا من قدرهم. ذلك أن البربر يعتبرون المس بدينهم إهانة كبرى لهم. كما أن اعتبارهم حلفاء للفرنسيين هو هدية مسمومة إلى البربر. وقد ردوها على أصاحبها أكثر من مرة. والبربر بدون شك قوم يفتخرون بماضيهم ولغتهم وتقاليدهم، وهم أيضا قوم فخورون بدورهم العظيم في فتح الأندلس (12 ألف جندي على الأقل)، وفي حمل الإسلام إلى وسط فرنسا نفسها وإلى جنوب إيطاليا، وإلى إفريقية، وفخورون أيضا بتأسيس القاهرة والأزهر الشريف، وإقامة الممالك الكبرى قبل أن تتكون في فرنسا مملكة أو كيان سياسي. ولكنهم لا ينفون أنهم فعلوا ذلك كمسلمين عقيدة ولغة، وأن إنتاجهم الحضاري المكتوب قد اختلط بإنتاج العرب حتى لم يعد أحد يستطيع معرفة الفرق.
ومع ذلك فإننا – وللتاريخ – نذكر ما كان كتاب فرنسا يخططون للجزائريين، وكيف كانوا يضعون شباكهم لصيد البلهاء. وأي فضيلة لهؤلاء الكتاب إذا كانوا دائما يكتبون عن خطط تسمح لفرنسا بتفريق الجزائريين وإحكام قبضتها عليهم واستعبادهم؟ ذلك أن المدح للبربر والقدح في العرب، وأحيانا العكس، لا يقصدون من ورائه خدمة العلم والحقيقة، وإنما خدمة الإدارة الاستعمارية وتمكين الحضارة الفرنسية البربر والعرب معا. ولم نسمع، رغم الضجة الكبرى، بتخلي فرنسا عن جزء من أرض الجزائر لهذا الفريق أو ذاك لأنه في نظر كتابها كان أقرب إليها من غيره وأصدق في تحالفه معها من بقية المواطنين، بل إن فرنسا كانت تعاملهم على حد سواء. فهم (رعايا) فرنسيون أولا وهم (أندجين) ثانيا. وعند انتزاع الأراضي وتوزيعها على الكولون لا يسأل الجزائري هل أنت من السكان المستقرين أو من السكان الرحل، وعواقب الثورات كانت واحدة على الجميع. والغريب أن د. وارنيه الذي طالما امتدح البربر على هدوئهم بعد سنة 1857، وعلى قربهم من الحضارة الفرنسية بحكم اتصالهم القديم بالرومان (؟) الخ. هو الذي نصب لهم المحاكم والمشانق بعد ثورة 1871 واغتصب أراضيهم وفرض عليهم الغرامات الثقيلة”