فبعض الأفاضل يطلق أن ( باب الأفعال أوسع من باب الصفات )
وهذا الإطلاق مشكل فإن الصفات في التقسيم المعروف عند عامة المتأخرين أن
لله عز وجل
صفات ذاتية وصفات فعلية
فأفعال الله عز وجل صفات له فالمجيء والنزول والضحك والتعجب وغيرها صفات
لله عز وجل
وقد رأيت بعض هؤلاء الأفاضل يمثل للأفعال التي ليست بصفات بصفة المكر
وظاهر هذا أنه يمنع من القول بأن المكر صفة لله عز وجل
وهذا ما قال به أحد من السلف بل هو خلاف إطلاق أئمة أهل العلم
وقال الشيخ زيد بن فياض في ((الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية)) (ص
114) : ((وفي هذه الآيات إثبات وصف الله بالمَكْر والكيد والمُمَاحلة ، وهذه صفات فعلية
تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته ، قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } ؛ أي : الأخذ
بشدة وقوة ، والمِحَال والمُمَاحلة المماكرة والمغالبة)). اهـ.
وبنحوه قال الشيخ عبد العزيز السلمان في ((الكواشف الجلية))(ص266)
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح الواسطية (1/350) :”س10: سئل الشيخ:
عن صفة المكر والمخادعة والاستهزاء ونحوها.
فقال الشيخ -رحمه الله -: “قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ،
وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} ، وقوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ، وقوله: {وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ} ، وبالفعل أقدم هؤلاء وهؤلاء ثم بعد ذلك صار المسلمون يرون ضعف الكفار
كما في آل عمران: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} هذا تفسير للمكر والمخادعة،
وتفسير آخر هو انطفاء نورهم على الصراط في سورة الحديد: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}
أي تركهم وخذلهم لا بمعنى ذهاب الشيء من الذاكرة حاشا لله.
الصفات السابقة يسميها العلماء خبرية، ويصح أن تستعمل في تركيب مشابه لتركيب
القرآن؛ أي مصاحب للمكر من المخلوق.
فنقول: الله ماكر بالماكرين، ومستهزئ بالمستهزئين، ومخادع من يخادعه، ولا
يصح أن نقول: يا ماكر -حاشا لله-، والصفات السابقة نوع من الصفات الفعلية إلا أنها
لا بد من اقترانها بالسياق الوارد.
والمكر نوعان حسن وسيئ، والمنسوب لله هو المكر الحسن”
ولعل قائلاً سيقول أن هذا الفاضل لعله قصد أن صفة المكر لا تطلق إلا مقيدة
فتقول ( هو يمكر بالماكرين )
فيقال : فقد سميتها صفة في النهاية ولم تقل فعلاً وليس بصفة
وإنما القاعدة التي ذكرها ابن القيم في بدائع الفوائد أن باب الإخبار أوسع
من باب الأسماء والصفات
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (1/284) :” ويجب أن تعلم هنا أمور
أحدها أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه
وصفاته كالشيء والموجود والقائم بنفسه فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى
وصفاته العليا
الثاني أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه
بل يطلق عليه منها كمالها وهذا كالمريد والفاعل والصانع فإن هذه الألفاظ لا تدخل في
أسمائه ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق بل هو الفعال لما يريد فإن الإرادة والفعل
والصنع منقسمة ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلا وخبرا”
فهنا ابن القيم مثل بالإرادة ولا يظن أنه يقول أن الله عز وجل ليس له صفة
اسمها الإرادة وإنما هي فعل فقط وإنما أراد ابن القيم أن هذه لا يشتق منها أسماء مطلقة
لأنها لا تحمد بإطلاق وإنما حمدت على وجه مقيد لا يدخل عليه الذم بحال
ثم إنه مثل للإخبار الجائز بما يصلح أن يكون اسماً وليس أفعالاً فتأمل
هذا
وابن القيم لم يقل ( باب الأفعال أوسع من باب الصفات ) بل قال ( باب الإخبار
أوسع من باب الأسماء والصفات ) وإلا إذا كانت الفعل لا يطلق على الله عز وجل إلا مقيداً
فهو صفة فعلية لا تطلق على الله عز وجل إلا مقيدةً وانتهى الأمر
وقد وقع في كلام شيخ الإسلام قوله ( إثبات الأسماء والصفات والأفعال معلوم
بالضرورة )
وأحسب أنه أراد بالأفعال الصفات الفعلية وقد خصها بالذكر لأن المعطلة متفقون
على نفي الصفات الفعلية مع تنازعهم في إثبات الصفات الذاتية
الاستهزاء أثبوه صفة وكذلك الملل
فقد قرن شيخ الإسلام الاستهزاء بالمكر
وقال شيخ الإسلام في ((الفتاوى)) (7/111) رداً على الذين يدعون أنَّ هناك
مجازاً في القرآن : ((وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ (المكر) و(الاستهزاء)
و (السخرية) المضاف إلى الله ، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز ، وليس
كذلك ، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة ؛ كانت ظلماً له ، وأما
إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله ؛ كانت عدلاً ؛ كما قال تعالى
: )كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ( فكاد له كما كادت اخوته لما قال له أبوه )لا تَقْصُصْ
رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً(، وقال تعالى : )إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْدًا $ وَأَكِيدُ كَيْدًا( وقال تعالى : )وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً
وَهُمْ لا يَشْعُرُون َ$ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ( وقال تعالى
: )الذِينَ يَلمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ فِي الصـَّدَقَاتِ وَالذِينَ
لا يَجـِدُونَ إِلا جُهـْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَـخِرَ اللهُ مِنْهُمْ(
ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا الاسم ؛ كما روى عن ابن عباس
؛ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار ، فيسرعون إليه ، فيغلق ، ثم يفتح لهم باب
آخر ، فيسرعون إليه ، فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون.
قال تعالى)فَاليَوْمَ الذِينَ آمَنُوا مِنْ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ $ عَلَى
الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ $هَل ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(.
وعن الحسن البصري : إذا كان يوم القيامة ؛ خمدت النار لهم كما تخمد الإهالة
من القدر ، فيمشون ، فيخسف بهم.
وعن مقاتل : إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب ؛ باطنه فيه الرحمة
، وظاهره من قبله العذاب ، فيبقون في الظلمة ، فيقال لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا
نوراً.
وقال بعضهم : استهزاؤه : استدراجه لهم.
وقيل : إيقاع استهزائهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم.
وقيل : إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة.
وقيل : هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه.
وهذا كله حق ، وهو استهزاء بهم حقيقة)) اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن بار في ((الفتح)) (3/300) معقباً على الحافظ
ابن حجر لَمَّا تأوَّل صفةً من صفات الله : (( هذا خطأ لا يليق من الشارح ، والصواب
إثبات وصف الله بذلك حقيقة على الوجه اللائق به سبحانه كسائر الصفات ، وهو سبحانه يجازي
العامل بمثل عمله ، فمن مكر ؛ مكر الله به ، ومن خادع ؛ خادعه ، وهكذا من أوعى ؛ أوعى
الله عليه ، وهذا قول أهل السنة والجماعة ؛ فالزمه ؛ تفز بالنجاة والسلامة ، والله
الموفق))اهـ .
وسئل الشيخ العثيمين -رحمه الله- في ((المجموع الثمين)) (2/66) : هل يوصف
الله بالخيانة والخداع كما قال الله تعالى : )يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ(
فأجاب بقولـه :
((أما الخيانة ؛ فلا يوصف الله بها أبداً ؛ لأنها ذم بكل حال ؛ إذ إنها
مكر في موضع الإئتمان، وهو مذموم ؛ قال الله تعالى : )وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ
فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ([الأنفال : 71] ، ولم يقل :
فخانهم .
وأما الخداع ؛ فهو كالمكر ، يوصف الله تعالى به حين يكون مدحاً ، ولا يوصف
به على سبيل الإطــلاق ؛ قال الله تعالى : )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ
وَهُوَ خَادِعُهُـمْ([النساء : 142])) اهـ .
وقد نص الطبري على إثبات صفة الاستهزاء
حيث قال في تفسيره :” وأما الذين زعمـوا أنَّ قول الله تعالى ذكره
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء
ولا مكر ولا خديعة ؛ فنافون عن الله عَزَّ وجَلَّ ما قد أثبته الله عَزَّ وجَلَّ لنفسه
وأوجبه لها، وسواءٌ
قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية
بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به .
أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر
أنه خسف به من الأمم ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك : إنَّ الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا
لم نرهم ، وأخبرنا عن آخرين أنه خسف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدقنا الله تعالى
فيما ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نفرق بين شيء منه؛ فما برهانك على تفريقك ما
فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرقه وخسف به ، ولم يمكر بمن أخبر
أنه قد مكر به؟!”
وأما الملل
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في ((الفتاوى والرسائل)) (1/209) : ((((فإنَّ
الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا)) : من نصوص الصفات ، وهذا على وجه يليق بالباري ، لا
نقص فيه ؛ كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر)).
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في ((مجموعة دروس وفتاوى الحرم))
(1/152) : هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله تعالى ؟ فأجاب: ((جاء في الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم قولـه : ((فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا)).
فمن العلماء من قال : إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله ، لكن ؛ ملل الله
ليس كملل المخلوق ؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص ؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء
، أما ملل الله ؛ فهو كمال وليس فيه نقص ، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله
على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً
ومن العلماء من يقول : إنَّ قولـه : ((لا يَمَلُّ حتى تملوا)) ؛ يراد به
بيان أنه مهما عملت من عمل ؛ فإنَّ الله يجازيك عليه ؛ فاعمل ما بدا لك ؛ فإنَّ الله
لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل ، وعلى هذا ، فيكون المراد بالملل لازم الملل.
ومنهم من قال : إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقاً ؛ لأنَّ
قول القائل : لا أقوم حتى تقوم ؛ لا يستلزم قيام الثاني ، وهذا أيضاً : ((لا يمل حتى
تملوا)) ؛ لا يستلزم ثبوت الملل لله عَزَّ وجَلَّ.
وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله تعالى مُنَزَّه عن كل صفة نقص
من الملل وغيره ، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل ؛ فالمراد به ملل ليس كملل
المخلوق))اهـ.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم