قال قوام السنة الأصبهاني (1/341) :
“أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر
السَّمْعَانِيّ – رَحمَه اللَّه – قَالَ: “اعْلَم أَن مَذْهَب أهل السّنة أَن
الْعقل لَا يُوجب شَيْئا عَلَى أحد، وَلَا يدْفع شَيْئا عَنهُ، وَلَا حَظّ لَهُ فِي
تَحْلِيل أَو تَحْرِيم، وَلَا تَحْسِين وَلَا تقبيح، وَلَو لم يرد السّمع مَا وَجب
عَلَى أحد شَيْء، وَلَا دخلُوا فِي ثَوَاب وَلَا عِقَاب”.
ما ذكره السمعاني هو في الحقيقة مذهب الأشاعرة ، والسمعاني عالم سلفي شافعي
كان حنفياً قدرياً ، ولعله لما ترك القدرية ما كان في ناحيته أحد ممن يتكلم في هذه
المسألة ممن يناويء القدرية إلا الأشاعرة
فظن قولهم هو قول أهل السنة ،
والصواب أن العقل يحسن ويقبح ولكن العقوبة متوقفة على ورود الشرع كما بين ذلك شيخ الإسلام
ابن تيمية وتلميذه ابن القيم
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم بطلان مذهب الأشاعرة هذا ومن وافقهم في مواطن عديدة من كتبهم.
فأولاً: نبين أن المذهب الذي تبناه المصنف هو مذهب الأشاعرة الجبرية:
قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح (3/3) : “قد تنازع الناس في حسن
الأفعال وقبحها كحسن العدل والتوحيد والصدق وقبح الظلم والشرك والكذب هل يعلم بالعقل
أم لا يعلم إلا بالسمع
وإذا قيل أنه يعلم بالعقل فهل يعاقب منفعل ذلك قبل أن يأتيه رسول على ثلاثة
أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم
وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم
فقالت طائفة لا يعرف ذلك إلا بالشرع لا بالعقل وهذا قول نظار المجبرة كالجهم
بن صفوان وأمثاله وهو قول أبي الحسن الأشعري وأتباعه من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي
أبي بكر بن الطيب وأبي عبدالله بن حامد والقضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الوفاء بن
عقيل وغيرهم وقيل بل قد يعلم حسن الأفعال”.
بين هنا شيخ الإسلام أن ابن عقيل إنما تابع الأشعري في هذه المسألة
وقد بين شيخ الإسلام أن هذا القول محدث ومخترع ولم يقل به السلف ، وأنه
من الأصول المبتدعة
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة
(2/42) وهو يعدد مقتضيات هذا القول القبيح :
” واستلزامه التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل وأنه قبل ورود
النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود ولا شيء من أنواع الكفر
ولا السعي في الأرض بالفساد ولا تقبيح شيء من القبائح أصلا
وقد التزم النفاة ذلك وقالوا أن هذه الأشياء لم تقبح عقلا وإنما جهة قبحها
السمع فقط
وانه لا فرق قبل السمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضد ذلك
ولا بين شكره بما يقدر عليه العبد وبين ضده ولا بين الصدق والكذب والعفة
والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين
من كل وجه
وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا يتكلف
رده ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم
فأطبق أصحاب أبي حنيفة على خلافه وحكوه عن أبي حنيفة نصا
واختاره من أصحاب أحمد أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير ولم يقل
أحد من متقدميهم بخلافه
ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة
واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال
الكبير وبالغ في إثباته وبنى كتابه محاسن الشريعة عليه وأحسن فيه ما شاء
وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجانى
بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعرى القول بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه
أحد
وكذلك أبو القاسم الراغب وكذلك أبو عبد الله الحليمى وخلائق لا يحصون
وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا
يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين
إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهى لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر
والنهي فقط وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية
لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها
فيجعل الأول ضابطا للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل فلو
تساوت الأوصاف في نفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعات
الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها”.
فنص ابن القيم على أن ابن عقيل إنما تابع الأشعري في هذه المسألة ، وأن
نسبة هذا القول لمتقدمي الحنابلة باطلة.
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (6/611) :
” لْحُجَّةُ أَنَّهُمْ نَفَوْا التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّ
وَجَعَلُوا أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ
بَيَّنَ بِذَلِكَ تَعْظِيمَهُمْ لِلشَّرْعِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُ.
وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ تَسَنُّنُهُمْ،
وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْ
أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا
يُقَبِّحُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنُ فِعْلٍ وَلَا قُبْحُهُ
بَلْ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ حَادِثٌ
فِي حُدُوثِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فُقَهَاءِ
الْأُمَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ مِنْهَا فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا
وَهِيَ مُتَنَازِعَةٌ فِي ذَلِكَ”.
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/ 432) بعد أن تكلم على مذهب
المعتزلة في المسألة :
” وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فِي ” مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ
وَالتَّقْبِيحِ ” فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ:
إن الْأَفْعَالَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى صِفَاتٍ هِيَ أَحْكَامٌ وَلَا عَلَى
صِفَاتٍ هِيَ عِلَلٌ لِلْأَحْكَامِ بَلْ الْقَادِرُ أَمَرَ بِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ
دُونَ الْآخَرِ لِمَحْضِ الْإِرَادَةِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ
فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ.
وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَجُوزُ
أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ
وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَيَنْهَى عَنْ الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُوصَفُ بِهَا الْأَحْكَامُ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ
وَإِضَافَةٍ فَقَطْ وَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي نَفْسِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَا
الْمُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ.
بَلْ إذَا قَالَ: ﴿ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِمَا
يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا يُحِلُّ لَهُمْ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ
بَلْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَيْسَ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لَا مَعْرُوفٌ وَلَا مُنْكَرٌ وَلَا طَيِّبٌ وَلَا خَبِيثٌ
إلَّا أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يُلَائِمُ الطِّبَاعَ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي
عِنْدَهُمْ كَوْنَ الرَّبِّ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَرَ.
فَهَذَا الْقَوْلُ وَلَوَازِمُهُ
هُوَ أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ
وَالْفُقَهَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ
فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ
عَنْ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}
كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ التَّسْوِيَةِ
بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
وَقَالَ: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ﴾
وَقَالَ: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾
وَعَلَى قَوْلِ الْنُّفَاةِ: لَا
فَرْقَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَبَيْنَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ
عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ
الْآخَرِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَالْمَعْقُولِ”.
وقال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (1/214) :
“أما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لا يقولون برعاية
الحكمة في أفعال الله تعالى:
كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن
وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهم: كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن
عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم
ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقا مع أن أكثر
الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من
“مسائل الخلق والأمر” وجمهور الفقهاء يقولون بذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح
العقليين طوائف من الفقهاء
كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه
عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميم وأبي الخطاب وكأبي نصر السجزي
وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام”.
وقد ناقض الأشاعرة في هذا الباب المعتزلة فذهبوا إلى إثبات الحسن والقبح
العقليين ، ولكنهم غلوا فرأوا أن الحجة قائمة بدون إرسال الرسل ، وأن الثواب والعقاب
يقعان وإن لم يتم إرسال الرسل لأن حسن التوحيد وقبح الشرك ثابتان بالعقل.
والقول الوسط أن الحسن والقبح يثبتان في العقل والفطرة والشرع ، ولكن العقاب
متعلق بورود الشرع
قال ابن القيم في مدارج السالكين
(1/222) :
” قد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين وأنه لا يعاقب إلا بإرسال
الرسل وأن الفعل نفسه حسن وقبيح ونحن نبين دلالته على الأمرين:
أما الأول: ففي قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفي قوله رسلا
مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وفي قوله كلما ألقي فيها فوج
سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من
شيء
فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل بل للنذر وبذلك دخلوا النار
وقال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليك آياتي وينذرونكم
لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم
كانوا كافرين
وفي الزمر ألم يأتكم رسل منكم
يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا
ثم قال في الأنعام بعدها ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون
وعلى أحد القولين وهو أن يكون
المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل فتكون الآية دالة على الأصلين أن أفعالهم
وشركهم ظلم قبيح قبل البعثة
وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد الإرسال وتكون هذه الآية في دلالتها على
الأمرين نظير الآية التي في القصص ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا
لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين
فهذا يدل على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم ولولا قبحه لم يكن
سببا لكن امتنع إصابة المصيبة لانتفاء شرطها وهو عدم مجيء الرسول إليهم فمذ جاء الرسول
انعقد السبب ووجد الشرط فأصابهم سيئات ما عملوا وعوقبوا بالأول والآخر “
وقال شيخ الإسلام في درء التعارض (4/ 332) :
” وقوله تعالى : ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ حجة على الطائفتين
وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم
أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول ويجوزون تعذيب الأطفال
والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون : إن عذابهم واقع، وهذه الآية حجة عليهم كما
أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح
قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال
رسول والله سبحانه أعلم”.
تلخيص كلام الشيخين في أمرين:
الأول : أنه قوله تعالى ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً لئلا يكون للناس
حجة﴾ قوله: ﴿لئلا يكون للناس﴾ فيه رد على الأشاعرة الجبرية الذين لا يثبتون في أفعال
الحكمة
وقوله: ﴿وما كنا معذبين﴾ رد عليهم
إذ يجوزون عليه تعذيب الطائعين والأطفال وأن ذلك يكون حسناً منه إذ لا يتعلق بأفعاله
حكمة.
الثاني : قوله ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ فيه الرد على المعتزلة
القائلين بأن الثواب والعقاب يثبت بالعقل وإن لم يرد الشرع، وقال الله تعالى: ﴿وإذا
فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء﴾.
وعند الأشاعرة أن الله لو أمر بالفحشاء لم تكن فحشاء وعلى هذا المعنى يتعطل
معنى الآية ، إذ أن الله عز وجل يدلل على بطلان دعواهم في بعض الأوامر أن الله أمر
بها ، على قبحها طبعاً وعقلاً وأن الله عز وجل لا يأمر بمثل هذا.
قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/243) :” إن الله لا يأمر بالفحشاء
أي لا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطر ولو كان إنما علم وإنه لا معنى لكونه فاحشة
إلا تعلق النهي به لصار معنى الكلام إن الله لا يأمر بما ينهى عنه وهذا يصان عن التكلم
به آحاد العقلاء فضلا عن كلام العزيز الحكيم وأي فائدة في قوله إن الله لا يأمر بما
ينهى عنه فإنه ليس لمعنى كونه فاحشة عندهم إلا أنه منهي عنه لا أن العقول تستفحشه”.
وقد التزم الأشاعرة بسبب هذا المذهب القبيح أن الله عز وجل لا يقدر على
الظلم ، لأن الظلم منه ممتنع لذاته لأنه لو فعل الظلم لكان عدلاً، وقد بين شيخ الإسلام
بطلان هذا فاستدل عليهم بحديث ((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)).
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (18/ 144) :” وأن الله لا يريد
الظلم والأمر الذى لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته وإنما
يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرا عليها فعلم أن الله قادر على ما نزه
نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله وبذلك يصح قوله إنى حرمت الظلم على نفسى وأن التحريم
هو المنع وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته”.
وكلام شيخ الإسلام وابن القيم في نقض هذا المذهب كثير اكتفيت منه بنتف
تدل على المقصود، وهل ثبوت الثواب متوقف على ورود الشرع ؟
معنى هذا أن أفعال أهل الفترة لا يثابون عليها، وإن كانت صالحةً وأرادوا
بها وجه الله؛ ومعناه أن الكافر الذي لم يعرف الإسلام ، وعمل بعض الأعمال الصالحة التي
ثبت صلاحها بالفطرة وأراد بها وجه الله أنه لا يثاب عليها، والقول بأنهم لا يثابون
إلا بعد ورود الشرع يستقيم على أصول نفاة التحسين والتقبيح العقليين، والحق أن هذا
القول يرد عليه أمور:
أولها : أن المتوقف على ورود الشرع في النصوص هو العذاب كما قال تعالى:
﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾.
ثانيها : أنه قد ثبت في بعض أهل الفترة أنهم بشروا بالجنة مثل زيد بن عمرو
بن نفيل.
وفي السيرة لابن هشام (1/224) : عن محمد بن إسحاق، حدثني هشام بن عروة،
عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر؛ قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو ابن نفيل مسنداً ظهره إلى
الكعبة؛ يقول: يامعشر قريش! والذي نفس زيد بيده؛ ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم
غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكنني لا أعلمه، ثم
يسجد على راحته”.
فهذا أثابه الله على التوحيد وعلى أعماله الصالحة ، لأنه سار على التوحيد
وقد كان من أهل الفترة ، واختار الحنيفية السمحة ، ولم يأته نبي.
ثالثها : قال مسلم في صحيحه 438- [365-214] حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنْ دَاوُدَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ
؟ قَالَ : لاَ يَنْفَعُهُ ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ الدِّينِ.
فقوله ((إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ))، يدل على أنه لو قالها لنفعه ذلك مع أنه من أهل الفترة فتأمل.
رابعها : قال مسلم في صحيحه 238- [194-123] حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ
يَحْيَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ، أَخْبَرَهُ
، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْتَ أُمُورًا
كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ
مِنْ خَيْرٍ.
وَالتَّحَنُّثُ : التَّعَبُّدُ.
أقول : فهذا نص في أن تعبداته في الجاهلية يؤجر عليها بعد أن يسلم، ولو
كان لا يؤجر إلا بعد ورود الشرع لم تنفعه عباداته في الجاهلية ، وهذا الحديث فيه الرد
على نفاة التحسين والتقبيح العقليين إذ أن على قولهم لا يجوز أن يؤجر على فعل فعله
قبل ورود الشرع ، إذ أن في الجاهلية لم يكن هناك شرع يتقيد به الناس.
وأما بعد ورود الشرع فلا يجوز التعبد إلا بما شرع الله عز وجل، إذا علمت
هذا
علمت خطأ الأستاذ سعود العثمان في إيراده لهذا الكلام من السمعاني في مقدمة
كتابه ( عقيدة الراسخين ) (1/ 24).
وقد بذل في كتابه المذكور جهداً طيباً في جمع آثار السلف في الصفات غير
أن على كتابه مؤاخذات أرجو أن يتسع صدره للنظر فيها وإصلاحها في الطبعات القادمة:
الملحوظة الأولى : ذكره لكلام السمعاني المذكور.
الملحوظة الثانية : أورد في (1/50) أثر عن الإمام مالك الذي يقول فيه
: محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد.
وخبط في تخريجه فقال : أثر أخرجه السلمي في أحاديث ذم الكلام وأهله ، والهروي
في ذم الكلام من طريق شيخ السلمي .
وقد تركت ذكر الأرقام عمداً ، وقوله أثر صحيح غير صحيح فمحمد بن الحسين
السلمي متهم بالكذب ، وقوله أن الهروي أخرجه من طريق شيخ السلمي ، غلط بل أخرجه من
طريق السلمي أبي عبد الرحمن نفسه ، ولكنه سماه باسمه فقال ( محمد بن الحسين ) فلم يعرفه
الأستاذ سعود العثمان وظنه رجلاً آخراً !
وقد عرفه في أماكن أخرى وهذا عجيب !
الملحوظة الثالثة : نقل في (1/68) : أثراً عن ابن خزيمة يقول فيه : وقد
سئل ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات؛ فقال: بدعةٌ ابتدعوها، ولم تكن أئمة المسلمين
وأرباب المذاهب وأئمة الدين مثل مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى
بن يحيى وابن المبارك ومحمد بن يحيى وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف يتكلمون في
ذلك، وينهون عن الخوض فيه، ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة؛ فإياك والخوض فيه والنظر
في كتبهم بحال)، وصححه ولا يصحح إذ أنه من طريق السلمي الكذاب.
الملحوظة الرابعة : أورد في (1/72) قول الأوزاعي : كنا والتابعون متوافرون
نقول: إن الله- تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته- جل وعلا،
وصحح إسناده وغاية أمره أن يكون حسناً فإن في سنده محمد بن كثير المصيصي صدوق كثير
الخطأ ، وإنما احتمل في مثل هذا الأثر المقطوع لأنه يروي عن شيخه الأوزاعي مباشرة وهذا
يحتمل في الآثار.
المحلوظة الخامسة : قال في (1/197) : بيان ما يقبل ويرد من التأويل ، ومن
يقبل التأويل منه ومن يرد عليه، ثم مثل للتأويل المقبول بقول السلف في قوله تعالى
﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ بالعلم ، ومثل للتأويل المردود بأمثلة، وهذا بحث غير محرر فالتأويل
بالمعنى السلفي هو التفسير ، وما يؤول إليه الشيء.
وأما صرف اللفظ عن معنى راجح إلى معنى مرجوح لقرينة ، فهذا تحريف وليس
تأويلاً ولم يكن من طريقة السلف وصف مثل هذا بالتأويل إلا مضافاً فيقولون (تأويل الجهمية).
وتفسير السلف لقوله تعالى: ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ ليس تأويلاً بالمعنى
البدعي بل هو تفسير اعتبر فيه السياق فالظاهر يدل على إيرادة العلم فالآية ختمت بالعلم
وابتدأت بالعلم ، وذكر النجوى يدل على أن المراد بالمعية العلم.
على أن الجهمية يثبتون أمراً زائداً على المعية وهو امتزاج المخلوق بالخالق
فيقولون في الخالق ( هو في كل مكان ) ، وفي لغة العرب إذا قالوا ( زيد مع عمرو ) دل
على أن زيداً له ذات منفصلة عن عمرو فالآية ترد عليهم.
الملحوظة السادسة : جعل سعود العثمان المجلد الثاني لجزء له في إثبات النزول
ونقل في (2/583) قول نعيم بن حماد : ينزل بذاته وهو على كرسيه .
ثم نقل تعقب ابن عبد البر على نعيم بقوله في الاستذكار (2/530) :
” وقد قالت فرقة منتسبة إلى السنة إنه ينزل بذاته ! وهذا قول مهجور
لأنه تعالى ذكره ليس بمحل للحركات ولا فيه شيء من علامات المخلوقات”
ثم علق بعدم موافقة نعيم ، وكان
ينبغي أن يعلق على قول ابن عبد البر ( ليس بمحل للحركات ) فليس من طريقة أهل الحديث
نفي هذه الأمور ، والإثبات والنفي مرجعهما إلى النص
وقد أثبت جماعة من أهل الحديث
كنعيم والدارمي لفظ ( الحركة ) ولعلهم أرادوا به الإخبار المجرد للوصف وباب الإخبار
أوسع من باب الوصف ، فهذا كقولهم في الأسماء ( القديم ) ، أما نفي الحركة فلم يقل به
أحد من المتقدمين وكان ينبغي التعليق عليه.
الملحوظة السابعة : قال في حاشية (2/597) وهو يثني على أرجوزة الداني المسماة
بالمنبهة : وكتابه هذا جليل القدر ، أرجوزة عظيمة غزيرة الفوائد ، احتوت على درر في
علوم القرآن والقراءات ومعرفة الأئمة والأشياخ ، وعقد الديانات ، حرية بالحفظ والمدارسة.
وهذا الكتاب الذي أطراه فيه عقائد أشعرية فمنها قول الداني:
وزعم الإمام الاشعري *** وصحبه وكلهم مرضي
بأن الايمان هو التصديق *** وذاك قد يعضده التحقيق
وهذا إرجاء الأشاعرة.
وقوله قبل ذلك:
وأن ربنا قديم لم يزل *** وهو دائم إلى غير أجل
ليس له شبه ولا نظير *** ولا شريك لا ولا وزير
ولا له ند ولا عديل *** ولا انتقال لا ولا تحويل
نفي الانتقال لوثة جهمية.
وقوله قبل ذلك:
كلامه وقوله قديم *** وهو فوق عرشه العظيم
وصف القرآن بأنه قديم يخشى أن يريد به مذهب ابن كلاب، وأحسب أن كثيراً
سينفرون من مدارسة هذا الكتاب لقوله فيه:
وامح الذي في الكتب والصحيفه *** من قول ذي الرأي أبي حَنِيفَة !
الملحوظة الثامنة : قوله في جزئه في الصورة (2/717) : “1- عن ابن
عباس ، قال : غضب موسى عليه السلام على قومه من بعض ما كانوا يتلونه منه فلما نزل الحجر
قال : اشربوا يا حمير
فأوحى الله إليه : أن يا موسى
تعمد إلى خلق من خلقي خلقتهم على مثل صورتي فتقول لهم : يا حمير ؟
فما برح موسى حتى أصابته عقوبة،
فقال سعود : إسناده ضعيف ، وهو من الاسرائيليات”.
أقول : إذا كان ضعيفاً فلم تقول ( إسرائيلية ) ليصح أولاً لنحدد مكان الرواية،
وجزمك أنها إسرائيلية رجم بالغيب ، فربما لم تكن كذلك والصحابة والتابعون لم يكن مصدرهم
الوحيد لتلقي الأخبار عن الأنبياء كتب بني إسرائيل ، بل ربما كان مما تلقي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه.
الملحوظة التاسعة : حقق سعود العثمان في آخر كتابه هذا جزء غلام الخلال
في العقيدة، فقال غلام الخلال كما في (2/ 787) : باب في الذراعين والحقو والصدر، فعلق
سعود بقوله : وهذا مما وقع فيه كثير من متأخري الحنابلة ، فقد استدلوا بأخبار واهيات
في إثبات ما لا يصح إثباته لله عز وجل.
أقول : هذا تعليق سخيف فغلام الخلال ليس من متأخري الحنابلة بل من متقدميهم
، وهذا الباب ما أورد فيه إلا الصحيح الثابت
وصفة الحقو الذي اعترف سعود بأن
الخبر فيها ثابت ولكنه لم يجد كلاماً لمتقدم فيها
فهذه فائدة ليدعو لي إذا قرأها.
قال ابن أبي حاتم في العلل : “2118- وسألتُ أبي عن تفسير حديث النبي
صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ الرحم شجنة من الرحمان وإنها آخذة بحقو الرحمان، فقال
: قال الزُّهْريّ على رسول الله البلاغ ومنا التسليم ؛ قال أمروا حديث رسول الله على
ما جاء .
وحدثت عن مُعتمر بن سليمان ، عن أَبيه أَنه قال كانوا يكرهون تفسير حديث
رسول الله بآرائهم كما يكرهون تفسير القرآن برأيهم.
وقال الهيثم بن خارجة سمعت الوليد بن مسلم يقول سألتُ الأوزاعي وسفيان
الثَّورِيّ ومالك بن أنس والليث بن سعد عن هذه الاحاديث التي فيها الصفة والرؤية والقرآن
فقال أمروها كما جاءت بلا كيف”.
الملحوظة العاشرة : قال غلام الخلال 22- حدثنا أحمد حدثنا عبد الرحمن بن
محمد بن سلام حدثنا أبو أسامة هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله
عنه قال :
خلق الله عز وجل الملائكة من نور الذراعين والصدر.
فعلق سعود العثمان تعليقاً سيئاً
مفاده أن زيادة (الذراعين والصدر) منكرة لأن البزار روى هذا الخبر من إبراهيم بن سعيد
عن أبي أسامة بدون هذه الزيادة.
والجواب على هذا أن يقال: أن هذه الزيادة رواها عن أبي أسامة إضافة إلى
عبد الرحمن الإمام أحمد ابن حنبل جبل الحفظ فكيف تكون شاذة.
قال عبد الله بن أحمد في السنة 987 – حدثني أبي ، نا أبو أسامة ، نا هشام
بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : «خلق الله عز وجل الملائكة
من نور الذراعين والصدر».
ورواه من طريق عبد الله ابن مندة في الرد على الجهمية (84) ، وقد رأى سعود
هذه الرواية ولم يشر إلى متابعة أحمد لعبد الرحمن وهذا تدليس منه والسبب في ذلك أنه
استنكر المتن فتكلف التدليس.
ثم حاول سعود الزعم أن هذه الزيادة زادها بعض الرواة
واحتج بما روى عبد الله بن أحمد
في السنة 1085 – حدثني سريج بن يونس ، نا سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر ، عن هشام
بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : « ليس شيء أكثر من الملائكة ، إن
الله عز وجل خلق الملائكة من نور
فذكره وأشار سريج بن يونس بيده
إلى صدره ، قال : وأشار أبو خالد إلى صدره ، فيقول : كن ألف ألف ألفين فيكونون.
وهذه الرواية حجة عليه فكل ما فيها أنه روى بالإشارة الحسية المفهمة ما
رواه غيره لفظاً ، وأبو خالد الأحمر صدوق يخطيء فلو فرضنا أنه خالف أبا أسامة فالقول
قول أبي أسامة.
ثم أخذ يشير إلى أنها إسرائيلية بل صرح بذلك وقل (وسياقه يوحي بذلك) ولا
أدري أين دل السياق على ذلك
والجواب على هذا من وجوه:
أولها : هذا الخبر أورده عبد الله بن أحمد في كتاب السنة وابن مندة في
الرد على الجهمية وبوب عليه غلام الخلال وذكره ابن المحب في الصفات وبوب عليه وما أعلم
أحداً من أهل العلم أنكره قبل البيهقي الأشعري فهو متلقى بالقبول
ثانيها : قد أوردت أنت نفسك عن وكيع ما روى الدارمي في رده على المريسي
(2/728) : كَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ أَنَّ وَكِيعًا سُئل عَنْ حَدِيثِ
عبد الله ابْن عَمْرٍو: “الْجَنَّةُ مَطْوِيَّةٌ مُعَلَّقَةٌ بِقُرُونِ الشَّمْس”
فَقَالَ وَكِيع: هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، قَدْ رُوِيَ فَهُوَ يُرْوَى، فَإِنْ سَأَلُوا
عَنْ تَفْسِيرِهِ لَمْ نُفَسِّرْ لَهُمْ، وَنَتَّهِمُ مَنْ يُنكره وينازع فِيهِ، والْجَهْمِيَّةُ
تُنْكِرُهُ.
فهذا وكيع سلم لأثر موقوف روي عن عبد الله بن عمرو بل واتهم من ينكره ،
ولم يقل إسرائيلية مما يدل على أن هذا ليس مسلكاً سلفياً.
ثالثها : أننا لو زعمنا أن الصحابة كانوا يحدثون عن بني إسرائيل جازمين
بما نقلوا عنهم ولم يعلموا صدق ذلك ، لكنا قد اتهمناهم بتضليل الأمة، نبه على هذا المعنى
القاضي أبو يعلى
حيث قال في إبطال التأويلات (1/221) : “قيل: عبد الله بن عمرو لم
يرفعه إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو موقوف عليه فلا يلزم
الأخذ به
قيل: إثبات الصفات لا يؤخذ إلا توقيفا لأن لا مجال للعقل والقياس فيها،
فإذا روي عن بعض الصحابة فيه قول علم أنهم قالوه توقيفا
فإن قيل: فقد قيل إن عبد الله
بن عمرو وسقين يوم اليرموك، وكان فيها من كتب الأوائل مثل دانيال وغيره، فكانوا يقولون
له إذا حدثهم: حَدَّثَنَا ما سمعت من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ولا تحدثنا من وسقيك يوم اليرموك، فيحتمل أن يكون هَذَا القول من جملة تِلْكَ الكتب
فلا يجب قبوله
وكذلك كان وهب بن منبه يَقُول:
إنما ضل من ضل بالتأويل، ويرون فِي كتب دانيال أنه لما علا إلى السماء السابعة فانتهوا
إلى العرش رأى شخصا ذا وفرة فتأول أهل التشبيه عَلَى أن ذَلِكَ ربهم وإنما ذَلِكَ إبراهيم
قيل: هَذَا غلط لوجوه: أحدهما أنه لا يجوز أن يظن به ذَلِكَ لأن فيه إلباس
فِي شرعنا، وهو أنه يروي لهم ما يظنوه شرعا لنا، ويكون شرعا لغيرنا، ويجب أن ننزه الصحابة”.
رابعاً : قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (3/268) :
“وهذا الأثر وإن كان في رواية كعب فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن
يكون مما تلقاه عن الصحابة ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا دافعها لا
يصدقها ولا يكذبها فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدثوا به
هم وغيرهم ولم ينكروا ما فيه من قوله ((من ثقل الجبار فوقهن))، فلو كان هذا القول منكرًا
في دين الإسلام عندهم لم يحدثوا به على هذا الوجه” . ا.هـ
ومثل هذا يقال في أثر عبد الله بن عمرو الذي رواه من الأئمة الإمام أحمد
وابنه عبد الله وعروة وابنه هشام وقبل هؤلاء الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو.
وقال العلامة ابن القيم –كما في مختصر الصواعق- ص436 : وَرَوَى يُونُسُ
بْنُ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ: ” أَنَا اللَّهُ فَوْقَ عِبَادِي، وَعَرْشِي
فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِي، وَأَنَا عَلَى عَرْشِي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي، وَلَا يَخْفَى
عَلَيَّ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ» ” وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ
وَأَبُو الشَّيْخِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. ووَهَبْ أَنَّ الْمُعَطِّلَ
يُكَذِّبُ كَعْبًا وَيَرْمِيهِ بِالتَّجْسِيمِ، فَكَيْفَ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ هَؤُلَاءِ
الْأَعْلَامُ مُثْبِتِينَ لَهُ غَيْرَ مُنْكِرِينَ ؟ وهذا يقال في الأثر الذي معنا
من باب أولى.
خامساً : جزم الصحابي بما يقول يؤكد أنه ليس إسرائيلية ، لأن الاسرائيليات
لا تصدق ولا تكذب ، فكيف يجزم بما لا يصدق ولا يكذب، وقد نبه على هذا المعنى شيخ الإسلام
ابن تيمية.
كما في مجموع الفتاوى (13/ 345): ” وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ
بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ
عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى
؛ وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ
وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟”.
وقد أحسن محمد بازمول حين قال في شرحه على مقدمة التفسير
ص65:” قال شيخ الإسلام : وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا
صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ
احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ بَعْضِ
مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى، وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ فَكَيْفَ
يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟”.
ثم علق في الحاشية بقوله :” لدى بعض الناس جرأة غريبة، إذا ما جاء
نص عن الصحابي، في قضية مما لا يجدها في القرآن العظيم والسنة النبوية، فإنه يهجم على
القول بأنها مما تلقاه ذلك الصحابي عن بني إسرائيل!
والحقيقة أن الأمر يحتاج إلى وقفة متأنية؛ فأقول: لا شك أن الصحابي الذي
جاء في كلامه ما هو من قبيل كشف المبهم، لن يورد شيئاً عن أهل الكتاب يخالف ما في شرعنا،
نجزم بذلك.
إذا ما أورده الصحابي – على فرض
أنه مما تلقاه عن أهل الكتاب – إمّا أن يكون مما يوافق شرعنا، وإما أن يكون مما لا
يوافق و لا يخالف، ويدخل تحت عموم قوله – صلى الله عليه وسلم -: “حدثوا عن بني
إسرائيل ولاحرج” [أحمد وأبو داود]، “وإذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم و
لا تكذبوهم” [أحمد وأبو داود].
فالجرأة على رد ما جاء عن الصحابي بدعوى أنه من أخبار أهل الكتاب، لا يناسب
علمهم وفضلهم رضي الله عنه
ويوضح هذا: أن الصحابي إذا جزم
بشيء من هذه الأمور في تفسير آية فإنه يغلب على الظن أنه مما تلقاه عن الرسول – صلى
الله عليه وسلم -، أو مما قام على ثبوته الدليل، وإلا كيف يجزم به في تفسير الآية،
وهو يعلم أن غاية هذا الخبر أنه مما لا نصدقه أو نكذبه؟!
من ذلك ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (فُصِل القرآن الكريم
من اللوح المحفوظ وأُنزِل في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نَزَل على محمد صلى الله
عليه وسلم مُنَجَّمَاً في ثلاث وعشرين سنة) [الطبراني في الكبير: (12243)،والحاكم في
المستدرك: (2932)،والبزارفي مسنده: (210/ 2)].
رأيتُ بعض المتأخرين يجزم بأن هذا من الإسرائيليات، وبأن هذا مما تلقاه
ابن عباس عنهم، مع أن هناك قرائن في نفس الخبر تمنع هذا؛ منها:
أولاً: جَزْم ابن عباس به.
ثانياً: لا علاقة له بالتوراة والإنجيل لأنه يتكلم عن القرآن.
ثالثاً: هو يتكلم عن نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: لا مخالف لابن عباس في هذا.
فهذا مما يجعل سند ابن عباس هذا – وإن كان موقوفاً سنداً – فهو مرفوع حكماً
ومعنى، يعني أن له حكم الرفع.
وجاء عن ابن عباس نفسه أنه كان ينهى عن الأخذ عن أهل الكتاب، كما روى البخاري
في صحيحه، فكيف نقول: إن هذا من الإسرائيليات”.
وهذا كلامٌ غاية في التحرير جزى الله الشيخ خيراً عليه ، ويؤخذ على الشيخ
سعود توقيره لعبد الله الجديع وليس أهلاً لذاك.
وهناك ملحوظات أخرى على كتاب سعود العثمان أتركها لمقام آخر إن يسر الله
عز وجل وهذه أهمها ، وأرجو منه في الطبعات القادمة أن يتخلى عن الشرط الذي اشترطه في
ترك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم