قال محمود الرضواني في ص643 من كتابه منة الرحمن هذا الكلام لأبي
الوليد الباجي
قال الباجي :” قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي
مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ عِبَادِهِ مُؤْمِنًا بِهِ وَهُوَ مَنْ
أَضَافَ الْمَطَرَ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَأَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِالْقُدْرَةِ
عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ سَبَبٍ وَلَا تَأْثِيرٍ لِكَوْكَبٍ وَلَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا الْمُؤْمِنُ
بِاللَّهِ تَعَالَى كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُكَذِّبُ قُدْرَتَهُ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَجْحَدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ وَأَنَّ مِنْ
عِبَادِهِ مَنْ أَصْبَحَ كَافِرًا بِهِ وَهُوَ مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا
وَكَذَا فَأَضَافَ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ وَجَعَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا
وَلِلْكَوْكَبِ فِعْلًا”
أقول : الباجي أشعري والأشاعرة جبرية ينفون تأثير الأسباب بل ينفون الأسباب
كلها ، وفي كلامه هذا نفثة جبرية ما تنبه لها الدكتور الرضواني
وهي قوله ( دُونَ سَبَبٍ وَلَا تَأْثِيرٍ لِكَوْكَبٍ وَلَا لِغَيْرِهِ
فَهَذَا الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى)
والإشكال في قوله ( ولا لغيره ) فهذا يجري على أصول القوم في نفي الأسباب
وتأثيرها فعندهم مثلاً السكين لا تقطع القاطع هو الله والقول بأن السكين سبب للقطع
شرك ! ، وإنما هو صورة فقط والفاعل حقيقة هو الله عز وجل
وقد نص ابن القيم في شفاء العليل على أن المتكلمين الأشاعرة يقولون أن
المطر لا سبب له !
قال ابن القيم في شفاء العليل (1/206) :
” ولا تستهن بأمر هذه المسألة فإن شأنها أعظم وخطرها أجل وفروعها
كثيرة ومن فروعها أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله تعالى من المطر والنبات والحيوان
والحر والبرد والليل والنهار والإهلال والإبدار والكسوف والإستسرار وحوادث الجو وحوادث
الأرض انقسموا قسمين وصاروا طائفتين
فطائفة جعلت الموجب لذلك مجرد ما رأوه علة وسببا من الحركات الفلكية والقوى
الطبيعية والنفوس والعقول فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد
وقابلهم طائفة من المتكلمين فلم يسببوا لذلك سببا إلا مجرد المشيئة والقدرة
وأن الفاعل المختار يرجح مثلا على مثل بلا مرجح ولا سبب ولا حكمة ولا غاية يفعل لأجلها
ونفوا الأسباب والقوى والطبائع والقرائن والحكم والغايات
حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم أن الفلك والرحا ونحوهما مما يدور
متفكك دائما عند الدوران والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان وأن الألوان والمقادير
والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات والقادر المختار يعيدها كل وقت
وأن ملوحة ماء البحر كل لحظة تعدم وتذهب ويعيدها القادر المختار كل ذلك
بلا سبب ولا حكمة ولا علة غائية ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص من قول الفلاسفة أعداء
الرسل إلا بذلك ورأى أعداء الرسل أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة إلا بالتزام أصول
هؤلاء ولم يهتد الطائفتان للحق الذي لا يجوز غيره وهو انه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته
وإرادته ويفعل ما يفعله بأسباب وحكم وغايات محمودة وقد أودع العالم من القوى والطبائع
والغرائز والأسباب والمسببات ما به قام الخلق والأمر وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر
طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة إلا من خلى الفقه ناحية وتكلم بأصول النفاة فعادى
فقهه أصول دينه “
والمنفي في الحديث تسبيب الكوكب لا أن اجتماع الغيم وتبخر ماء البحر سبب
خلقه الله لنزول المطر ، وحتى من قال أن المطر من تحت العرش لم ينف هذا الحس المشاهد
وقد سوى الباجي بين السبب المثبت والسبب المنفي
قال الله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ
يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ
نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فهذه الرياح جعلها الله سبباً في نزول المطر وخلق فيها تأثيراً
وأما الجبرية فينفون الأسباب أو يثبتونها ثم ينفون تأثيرها
ولو لم يكن القاتل سبباً في موت المقتول لكان في الاقتصاص منه أو تحميله
الدية ظلماً
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/13) :” الوجه الثاني أن يقال نقله
عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل بل جمهور أهل السنة المثبتة
للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة
حقيقية
وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل
من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء
ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون
أن لها تأثيرا لفظا ومعنى حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم
وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية
لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير
الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له
من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق
الله السبب الآخر ويزيل الموانع “
وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/342) :” بل نؤمن بالمقدور
ونصدق الشرع فنؤمن بقضاء الله وقدره وشرعه وأمره ولا نعارض بينهما فنبطل الأسباب المقدورة
أو نقدح في الشريعة المنزلة
كما فعله الطائفتان المنحرفتان
فإحداهما بطلت ما قدره الله من الأسباب بما فهمته من الشرع وهذا من تقصيرها في الشرع
والقدر
والأخرى توصلت إلى القدح في الشرع وإبطاله بما تشاهده من تأثير الأسباب
وإرتباطها بمسبباتها لما ظنت أن الشرع نفاها وكذبت بالشارع
فالطائفتان جانيتان على الشرع لكن الموفقون المهديون آمنوا بقدر الله وشرعه
ولم يعارضوا أحدهما بالآخر
بل صدر منهما الآخر عندهم وقرره
فكان الأمر تفصيلا للقدر وكاشفا عنه وحاكما عليه والا أصل للأمر ومنفذ له وشاهد له
ومصدق له فلولا القدر لما وجد الأمر ولا تحقق “
وقال ابن القيم في شفاء العليل (1/158) :” وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون
أنه لا حرارة في النار تحرق بها ولا رطوبة في الماء يروى بها وليس في الأجسام أصلا
لا قوى ولا طبائع ولا في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة وان لم تكن هذه الأمور
جحدا للضروريات فليس في العالم من جحد الضروريات وان كانت جحدا للضروريات بطل قولكم
ان جمعا من العقلاء لايتفقون على ذلك والاقوال التي يجحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف
أضعاف ماذكرناه فهم أجحد الناس لما يعلم بضرورة العقل”
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/521) :” وهذه الأصول باطلة
فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد و غيرها و دلت على ذلك الدلائل الكثيرة
السمعية و العقلية و هذا متفق عليه بين سلف الأمة و أئمتها و هم مع ذلك يقولون أن العباد
لهم قدرة و مشيئة و أنهم فاعلون لأفعالهم و يثبتون ما خلقه الله من الأسباب و ما خلق
الله من الحكم “
رحم الله ابن القيم وشيخه جليا المسائل وفضحا أهل البدع
فإن قال قائل : ما داعي التنبيه على هذا ؟
فيقال : هذا سؤال جافٍ ! ، فالدكتور الرضواني متخصص في العقيدة والناس
يأخذون كلامه على محمل التسليم وكتابه هذا في أصله محاضرات يجوب بها البلاد ويذيعها
على قناته فلا أشك أن كثيراً من الناس سمعوا كلام الباجي هذا وربما اعتقدوه
وهذا يبين لك أنه ينبغي للمرء أن يعرف عمن ينقل في العقيدة وعمن لا ينقل
وذلك بمعرفة عقائد الناس
وهذا يندرج تحت بياني السابق في تأثر الكثيرين بمسائل الأشاعرة من حيث
لا يشعرون وقد جاء هذا التأثير بسبب الثقة الزائدة بعلماء القوم ، واعتياض كثيرين بكتب
هؤلاء عن كتب السلف نتيجة لقواعد التمييع والله المستعان
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم