الإنسان بين مشاهدة الافتقار ومشاهدة نعمة التسخير
افترض أنك استيقظت في مكان لا تعرفه ولكنك وجدت فيه كل الأشياء التي تحتاجها للعيش في هذا المكان..
فسيقع في ذهنك أن هناك مَن أعدَّ هذا الشيء وأنه يريد منك شيئًا، لأنه ما تركك دون الأشياء التي تحتاجها.
في القرآن تجد دائمًا التنبيه على الأمور التي سخرها رب العالمين لعباده، وقد لا يفهم المرء للوهلة الأولى علاقة هذا الأمر بصحة الرسالة ووجود اليوم الآخر.
والأمر ينكشف بشيء من التدبر.
قال تعالى: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} [الزخرف]
ركوبك للدابة يذكرك بأمرين:
الأول: افتقارك، فأنت محتاج لهذه الدابة ولهذا إذا ضاعت أو ماتت فذلك الهلاك أو ما يقاربه.
الثاني: نعمة التسخير، فهذه الدواب سُخرت لابن آدم.
إذا شاهدت الافتقار في أصل وجودك، فأنت جئت بعد أن لم تكن، ثم الافتقار في عموم احتياجاتك، فهذا يفتح لك الباب في مشاهدة صفات الجلال لله عز وجل، مثل المتضمنة في اسمه الخالق والخلاق والمهيمن والغني وغيرها من الأسماء.
وإذا شاهدت نعمة التسخير فذلك يفتح لك الباب في مشاهدة صفات الجمال المتضمنة في مثل اسمه الرحمن والرحيم والرزاق والوهاب وغيرها.
إذا فهمت هذا فاقرأ قوله تعالى في سورة النبأ:
{ألم نجعل الأرض مهادًا • والجبال أوتادًا • وخلقناكم أزواجًا • وجعلنا نومكم سباتًا • وجعلنا الليل لباسًا • وجعلنا النهار معاشًا • وبنينا فوقكم سبعًا شدادًا • وجعلنا سراجًا وهَّاجًا • وأنزلنا مِن المعصرات ماءً ثجاجًا • لنُخرِج به حَبًّا ونباتًا • وجناتٍ ألفافًا • إنَّ يوم الفصل كان ميقاتًا} [النبأ]
ابحث عن الافتقار والتسخير في ذِكر الأرض والجبال والأزواج والنوم والليل والنهار والسماوات والشمس والمطر والنبات..
ستجد في كل هذا معنى يذكرك بافتقارك أيها الإنسان وأنَّ رب العالمين سخَّر لك ما يسد هذا الافتقار وأن هذا التسخير لو انقطع عنك تهلك أو تعنت.
وكل المعبودات من دون الله كلها يشملها الافتقار، وفيها المُسخَّر لنفع البشر كالشمس والقمر.
ثم قال بعدها {إن يوم الفصل كان ميقاتًا}.
فما علاقة هذا بأمر الافتقار والتسخير؟
فالجواب: إن الإلحاد وكل كفر دونه يأتي من مشاهدة أحد الأمرين دون الآخر.
فمِن الناس من يشاهد تسخير الأمور للبشر ومقدرتهم على التعامل معها فيأخذه التيه وينسى افتقاره ويستكبر، ومنهم من يعبد هذا المستكبِر.
ومنهم من يشاهد الافتقار دون التسخير فيسفه نفسه فيعبد المسخَّرات أو ما هو دونها -كمن يعبد الشمس والقمر والبقر- أو ما يظُن نفسه مفتقرًا إليه وهو عبد مثله.
ومنهم من يشاهد افتقاره وضعفه فحسب ويدخل في أطوار العدمية ويميل للانتحار.
وأما من شاهد الأمرين فإنه سيراهما في كل خطوة يخطوها ويعلم أنَّ له ربًّا حكيمًا عليمًا وأنه بعد هذا التسخير لا بد مِن حساب يُحاسِب فيه البشر ويسألهم عما فعلوه فيما استخلفهم فيه.