الإمام أحمد وميراث الجهمي
وقفت للتو على ورقات يتكلم فيها صاحبها عن تحرير موقف الإمام أحمد من أعيان الجهمية، والحق أن التحرير في هذه الورقات ضعيف، وسأضرب مثالًا واحدًا وتأتي بقية الأمثلة في المستقبل إن شاء الله.
قبل الشروع أود التنبيه على أمر، حين يطلق العلماء تكفير فرقة ما فإنهم إما أن يكفّروا أعيان هذه الفرقة كلهم أو يكفّروا الدعاة دون غير الدعاة أو يكفروا من قامت عليه الحجة دون غيره، القولان الأخيران قولان مختلفان وإن كانا يشتركان في عدم تكفير عامة الأعيان إلا أن القول في التفريق بين الداعية وغير الداعية أوسع، ولا يصلح أن تأتي لقولين مختلفين وتدافع عنهما معًا فإذا كان الدليل يرد على الأول استخدمت الثاني في الدفاع وإن كان الدليل يرد على الثاني استخدمت الأول في الدفاع.
وإذا كنا سنعتبر القول بالتفريق بين الداعية وغير الداعية معتبرًا، وهو قول جمهور الحنابلة، فعليه سنحكم بكفر دعاة القبورية الذين ألَّفوا في نصرتها وشنَّعوا على المخالفين، لا أن نتبرأ من فكر من يكفرهم!
وكذلك سنكفر دعاة البدع المكفرة من المتأخرين (أشعرية وماتردية) خصوصًا من بلغ بهم الأمر إلى تكفير أهل السنة أو تضليلهم بشدة فذلك من أعظم الدعوة.
والآن إلى نقطة ميراث الجهمية:
قال الخلال: “أخبرنا المروذي؛ أنه سمع أبا عبد الله يقول: بلغني عن عبد الرحمن أنه قال: لو كان لي قرابة ممن يقول: القرآن مخلوق ثم مات لم أرثه.
قال يعقوب بن بختان: قلت لأبي عبد الله رحمه الله: من كان له قرابة جهمي يرثه؟ قال: بلغني عن عبد الرحمن أنه قال: لا يرثه.
فقيل: ما ترى؟ فقال: إذا كان كافرًا. قلت: لا يرثه؟ قال: لا”.
“الإبانة” لابن بطة كتاب الرد على الجهمية 2/ 81 (309 – 310)
أورد المحرر هذا الأثر لبيان أن الإمام أحمد لا يكفر (كل أعيان) الجهمية لأنه توقف في الجهمي هل يورث أو لا يورث.
ولما انتبه المحرر إلى كون كلام عبد الرحمن بن مهدي يفيد التكفير قال: أن ترك عبد الرحمن بن مهدي لميراث قرابته الجهمي محمول على الورع ولو كان حامله التكفير لنهى الناس عنه قطعًا.
أقول: وفي هذا الكلام نظر وفيه تكلف شديد، فقد نقل أحمد رواية عبد الرحمن بن مهدي الأخرى بلفظ النهي: لا يرثه.
وإذا كانت هذه الرواية ستفيد عدم تكفير (كل أعيان الجهمية) فإذا رأينا رواية أخرى عن إمام آخر يفتي بعدم التوريث مطلقًا فستفيد التكفير أليس كذلك؟
قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة:
“من قال إنه لا يرث ولا يورث: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن مقاتل العباداني، ومحمد بن أبي صفوان، ومحمد بن جرير الطبري.
513 – أخبرنا علي بن محمد بن أحمد بن بكران، أنبا الحسن بن محمد بن عثمان قال: ثنا يعقوب بن سفيان قال: سمعت أبا هاشم زياد بن أيوب قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله رجل قال القرآن مخلوق، فقلت له: يا كافر، ترى علي فيه إثما؟ قال: كان عبد الرحمن بن مهدي يقول: لو كان لي منهم قرابة ثم مات ما ورثته. فقال له خراساني بالفارسية: الذي يقول القرآن مخلوق أقول إنه كافر؟ قال: نعم
514 – أخبرنا عبيد الله بن محمد بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن كامل قال: سمعت أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ما لا أحصي يقول: من قال القرآن مخلوق معتقدا له فهو كافر حلال الدم والمال، لا يرثه ورثته من المسلمين، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، فقلت له: عمن لا يرثه ورثته من المسلمين؟ قال: عن يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. قيل للقاضي بن كامل: فلمن يكون ماله؟ قال: فيئا للمسلمين”.
فالطبري فهم من كلام ابن مهدي التكفير، ويا ليت شعري أين الورع من تكفيرهم في قول ابن مهدي بحل دماء الجهمية؟
قال عبد الله بن أحمد في السنة: “46 – حدثني هارون بن عبد الله الحمال، حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: “لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال: إنه مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء“.
فهل يقتلهم احتياطًا؟
وأما توقف الإمام أحمد فلأن ميراث المرتد مسألة خلافية أصلًا إذا كان له ورثة مسلمون وفيه روايتان عن أحمد!
قال ابن قدامة في المغني: “(4954) مسألة: قال (ومتى قتل المرتد على ردته، فماله فيء) اختلفت الرواية عن أحمد في مال المرتد إذا مات، أو قتل على ردته، فروي عنه أنه يكون فيئا في بيت مال المسلمين. قال القاضي: هو صحيح في المذهب. وهو قول ابن عباس، وربيعة، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي -رضي الله عنهم- وأبي ثور، وابن المنذر. وعن أحمد ما يدل على أنه لورثته من المسلمين. وروي ذلك عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم- وبه قال ابن المسيب، وجابر بن زيد، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، والشعبي، والحكم، والأوزاعي، والثوري، وابن شبرمة، وأهل العراق. وإسحاق. إلا أن الثوري، وأبا حنيفة، واللؤلؤي، وإسحاق، قالوا: ما اكتسبه في ردته يكون فيئا. ولم يفرق أصحابنا بين تلاد ماله وطارفه“.
وهذه آفة من يُهمِل الفقه ويُقبِل على الجدل العقدي تفوته مثل هذه الوجوه، وواضح من السؤال أنه مبني على كون الجهمي مرتدًّا، فهم لا يسألون هل الجهمي يرث؟ بل يسألون هل يورث؟ (وفي الإبانة لابن بطة وصف أحمد لهم بالمرتدين وقال ابن حامد أن ظاهر المذهب أنهم مرتدون في التعامل ).
قال أبو بكر عبد العزيز:
“باب: القول في ميراث الجهمية:
٣٨٥٠- قال أبو عبدالله في رواية يعقوب بن بختان: من زعم أن الله لا يعلم ما يكون قبل أن يكون فهو كافر؛ قال الله تعالى: «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» ومن كان له قرابة يقول هذا القول لا يرثه.
٣٨٥١- وقال في رواية المروذي: الجهمي يموت وله ابن عم، ليس له وارث غيره، قال النبي ﷺ : «لا يرث المسلم الكافر» فلا يرثه، ونحن نذهب إلى أن مال المرتد لبيت مال المسلمين”.
زاد المسافر (٣ / ١٥٣)
وهذه رواية صريحة عن أحمد في تكفير مطلق الجهمي وعدم وراثته، وحملُ هذه الرواية على التفريق بين الداعية وغير الداعية ضعيف جدًّا لأنه يُسأل عن جهمي لا تُعرف تفاصيل حاله، بل حتى الرواية التي استدل بها المحرر يضعف حملها هذا المحمل.
قال ابن مفلح في البرهان: “ومن قلد في خلق القرآن ونفي الرؤية ونحوها فسق، اختاره الأكثر، وظاهر كلامه أنه يكفر كمجتهدهم الداعية“.
هذه الكلمة نقلها المحرر ولعله لم ينتبه لقول ابن مفلح “وظاهر كلامه أنه يكفر كمجتهدهم الداعية” الذي يقتضي تكفير كل الأعيان أو أنه رواية في المذهب على الأقل أو هو قول جماعة من السلف دون إنكار عليهم ولو خولفوا، وقوله (الأكثر) دليل على أن هناك من الحنابلة من فهموا من كلامه تكفير (كل) القوم، وعليه فهذه مسألة واسعة لا داعي لرمي من يقول فيها بقول معين بالإرجاء أو الخارجية كما يفعل الغلاة من الطرفين إلا أن يقترن بكلام بعضهم ما يوحي بإلغاء الحكم من أصله كالذي يرفض التكفير المطلق في حق مَن بدعته مكفرة أصالة أو يشنع على من كفّر داعية لبدعة مكفرة أو شخصًا دلت القرائن على قيام الحجة عليه.