إبطال قياس أهل البدع على الكفار في أمر المعاملة

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد اشتهر بين عدد من طلبة العلم قياس التعامل مع أهل البدع على التعامل
مع المشركين أو أهل الذمة ، فيقولون مثلاً ( إذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم دعوة
اليهودية فلا تثريب علينا أن نقبل دعوة المبتدع )

والحق أن هذا فيه نظر ، وأن المبتدع والفاسق يعاقبان بما لا يعاقب به الكافر
في باب الهجر ، وقد قرر ذلك غير واحد

قال ابن حجر في شرح البخاري  (17/ 247) :

” وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : قِصَّة كَعْب بْن مَالِك أَصْل فِي هِجْرَان
أَهْل الْمَعَاصِي ، وَقَدْ اِسْتُشْكِلَ كَوْن هِجْرَان الْفَاسِق أَوْ الْمُبْتَدِع
مَشْرُوعًا وَلَا يُشْرَع هِجْرَان الْكَافِر وَهُوَ أَشَدُّ جُرْمًا مِنْهُمَا لِكَوْنِهِمَا
مِنْ أَهْل التَّوْحِيد فِي الْجُمْلَة .

 وَأَجَابَ اِبْن بَطَّال بِأَنَّ
لِلَّهِ أَحْكَامًا فِيهَا مَصَالِح لِلْعِبَادِ وَهُوَ أَعْلَم بِشَأْنِهَا وَعَلَيْهِمْ
التَّسْلِيم لِأَمْرِهِ فِيهَا ، فَجَنَحَ إِلَى أَنَّهُ تَعَبُّد لَا يُعْقَل مَعْنَاهُ
.

 وَأَجَابَ غَيْره بِأَنَّ الْهِجْرَان
عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ : الْهِجْرَان بِالْقَلْبِ ، وَالْهِجْرَان بِاللِّسَانِ . فَهِجْرَان
الْكَافِر بِالْقَلْبِ وَبِتَرْكِ التَّوَدُّد وَالتَّعَاوُن وَالتَّنَاصُر ، لَا سِيَّمَا
إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا وَإِنَّمَا لَمْ يُشْرَع هِجْرَانه بِالْكَلَامِ لِعَدَمِ اِرْتِدَاعه
بِذَلِكَ عَنْ كُفْره ، بِخِلَافِ الْعَاصِي الْمُسْلِم فَإِنَّهُ يَنْزَجِر بِذَلِكَ
غَالِبًا ، وَيَشْتَرِك كُلّ مِنْ الْكَافِر وَالْعَاصِي فِي مَشْرُوعِيَّة مُكَالَمَته
بِالدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَة ، وَالْأَمْر الْمَعْرُوف وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر
، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوع تَرْك الْمُكَالَمَة بِالْمُوَادَّةِ وَنَحْوهَا “

فصرح هو ومن قبله من الشراح أن الفاسق والمبتدع يهجران والكافر لا يهجر
في الغالب

وصرح بهذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في الصارم المسلول
(6/40) :” ويوضح ذلك أنا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب ولا نقر واحدا منهم
ولا من غيرهم على زنى ولا سرقة ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود وقد عاقب الله قوم
لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة والأرض مملوءة من المشركين
وهم في عافية وقد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرات والأرض تلفظه
في كل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن
الله أراكم هذا لتعتبروا” ولهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر والإعراض والجلد
وغير ذلك بما لا يعاقب به الكافر الذمي مع أن ذلك أحسن حالا عند الله وعندنا من الكافر”

قال الخلال في السنة 1704: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
, قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ , قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو ثَابِتٍ
الْخَطَّابُ , قَالَ :

 كُنْتُ أَنَا وَإِسْحَاقُ بْنُ
أَبِي عُمَرَ جَالِسًا , فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ جَهْمِيٌّ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ
جَهْمِيٌّ , فَسَلَّمَ عَلَيْنَا , فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ السَّلاَمَ , وَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عُمَرَ , فَقَالَ لِي إِسْحَاقُ : تَرُدُّ عَلَى جَهْمِيٍّ
السَّلاَمَ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : أَلَيْسَ أَرُدُّ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ
؟ قَالَ : تَرْضَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : فَغَدَوْتُ
إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , فَأَخْبَرْتُهُ بِالْخَبَرِ , فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ
, تَرُدُّ عَلَى جَهْمِيٍّ ؟ فَقُلْتُ : أَلَيْسَ أَرُدُّ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ
؟ فَقَالَ : الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمَا.

وهذا الأثر في سنده جهالة غير أن معناه مستقيم مع العلم أن الجهمية كفار غير أن تعليل أحمد يشمل كل أهل البدع وإن لم يكونوا كالجهمية

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/323) :” فَصْلٌ ( فِي الِاسْتِعَانَةِ
بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّوْلَةِ ) .

قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ
دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ ، فَجَاءَهُ رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُهُ
عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ .

فَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ : يُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ : إنَّ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ لَا
يَدْعُونَ إلَى أَدْيَانِهِمْ ، وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ دَاعِيَةٌ .

عَزَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إلَى مَنَاقِبِ الْبَيْهَقِيّ وَابْنِ
الْجَوْزِيِّ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَقَالَ : فَالنَّهْيُ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ
بِالدَّاعِيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْأُمَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ ،
وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ .

وَفِي جَامِعِ الْخِلَالِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ أَصْحَابَ بِشْرٍ
الْمَرِيسِيِّ ، وَأَهْلُ الْبِدَع وَالْأَهْوَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعَانَ
بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ .

فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الضَّرَرِ عَلَى الدِّينِ وَالْمُسْلِمِينَ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ
الْمَرُّوذِيِّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، فَأَذِنَ فَجَاءَ
أَرْبَعَةُ رُسُلِ الْمُتَوَكِّلَ يَسْأَلُونَهُ فَقَالُوا : الْجَهْمِيَّةُ يُسْتَعَانُ
بِهِمْ عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا أَوْلَى أَمْ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ
عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسَلَّطُونَ
فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونُوا تَحْتِ أَيْدِيهمْ ، قَدْ اسْتَعَانَ
بِهِمْ السَّلَفُ .

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرُّوذِيُّ أَيُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَهُمَا مُشْرِكَانِ ، وَلَا يُسْتَعَانُ بِالْجَهْمِيِّ ؟ قَالَ : يَا
بُنَيَّ يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَأُولَئِكَ لَا يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ

وهذا الفقه العميق لم يدركه أولئك القائسون لأهل البدع على الكفار في باب
التعامل

تنبيه : تقدم في نصوص بعض أهل العلم أن العاصي يهجر ، ويريد بالعاصي المجاهر
بالكبائر

قال البخاري في صحيحه : بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى
وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا
وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.

وقال البخاري في الأدب المفرد 1018: حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ،
وَمُعَلَّى، وَعَارِمٌ، قَالُوا: حَدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ
قَالَ: لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْفَاسِقِ حُرْمَةٌ.

وهذا مشروع باتفاق أهل العلم إن لم يمنع منه مانع  ، من هذا تعلم
غلط من يطلق ( السلفي لا يهجر ) كذا بإطلاق ، ولا بد من التفصيل فإذا كان فاسقاً وكانت
المصلحة في هجره هجر

وهذا ليس فتحاً لباب التنافر والتباغض بل ينبغي وجود النصيحة ومراعاة المصلحة
ومراعاة المصلحة لا تعني دائماً الاحجام عن الهجر بل في كثير من الأحيان تكون المصلحة
في الإقدام على هذا ، وما ينبغي هجر هذه العقوبة الشرعية التي دلت عليها النصوص وادعى
بعض أهل العلم وجوبها

ومن أمثلة الفساق من ينشر الكذب في وسائل التواصل الاجتماعي على السلفيين
أو يحدث به في المجالس

قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا )

ومن أمثلة الفساق من يكتب بعدة أسماء ليوهم مخالفه أنه عدة أشخاص وأن مخالفيه
كثر ويؤيد نفسه بنفسه

وقد قال الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا
إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا )

قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم ص428 :” فكذلك موافقة
هؤلاء المغضوب عليهم والضالين وأشد .

نعم، هؤلاء يقرون على دينهم المبتدع، والمنسوخ، مستسرين به، والمسلم لا
يقر على مبتدع ولا منسوخ، لا سرا ولا علانية”

وقال ابن القيم في زاد المعاد (2/ 388) :” وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ
الرّدّ عَلَيْهِمْ فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ الصّوَابُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
لَا يَجِبُ الرّدّ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَوْلَى ،
وَالصّوَابُ الْأَوّلُ وَالْفَرْقُ أَنّا مَأْمُورُونَ بِهَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَعْزِيرًا
لَهُمْ وَتَحْذِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذّمّةِ “

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم