أمنية الصالحين : النجاة كفافاً لا لهم ولا عليهم

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

 
قال البخاري في صحيحه 6308 : حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
عُمَيْرٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ
عَنْ نَفْسِهِ قَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ
يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ
عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا .

وهذه الآثار التي ستأتي تشرح لك شيئاً من الحال التي يصفها ابن مسعود

قال البخاري في صحيحه 3915 : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا
رَوْحٌ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ
بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ هَلْ
تَدْرِي مَا قَالَ أَبِي لِأَبِيكَ قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَإِنَّ أَبِي قَالَ لِأَبِيكَ
يَا أَبَا مُوسَى هَلْ يَسُرُّكَ إِسْلَامُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِجْرَتُنَا مَعَهُ وَجِهَادُنَا مَعَهُ وَعَمَلُنَا كُلُّهُ
مَعَهُ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا
رَأْسًا بِرَأْسٍ فَقَالَ أَبِي لَا وَاللَّهِ قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا
وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ فَقَالَ أَبِي
لَكِنِّي أَنَا وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا
وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ
فَقُلْتُ إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَبِي

من ممن جاء بعد عمر له عشر فضائل عمر ؟

سيد الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين وصاحبه الصديق

حكم بالعدل حتى مضرباً للمثل وفتح الفتوحات العظام ومع ذلك يرجو أن ينجو
كفافاً لا له ولا عليه ما غره كل هذا العمل.

 فلا إله إلا الله ما عسانا أن
نقول اليوم وما عسى أن تكلم أحداً في أمر إلا أتاك بسجل إنجازاته الدعوية وكأن الله
قبلها كلها ! والله المستعان

وقال أبو نعيم في حلية الأولياء (3/6) : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ،
قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ الْمُجَوِّزُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ،
قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي أَنْفَلِتُ مِنْ هَذَا
الْأَمْرِ كَفَافًا، يَعْنِي مِنَ الْحَدِيثِ»

الله أكبر هذه مقالة أيوب السختياني وهو من هو

أتعلم من أيوب ؟

إنه من قال فيه الحسن البصري ( سيد فتيان أهل البصرة ) وقال هشام بن عروة
ما رأيت عراقياً أفضل منه ، وقال مالك ما حدثتكم عن عراقي أفضل من أيوب ( ومالك قرينه
) ، إليه المنتهى في الحفظ والتثبت والزهد والورع والحمية على السنة ، يقول هذا هو
الثقة الثبت وأما اليوم فترى الرجل يتخبط أحدهم في العقيدة ويخوض في النوازل ويحل الحرام
ويحرم الحلال باسم المصلحة ويبغض الناصحين ويفتري عليهم ويسكت عن المخالفين ويتكلم
في ناصحيه ، ولا يهمه ذلك كله أن وراءه يوماً ثقيلاً فما أقسى القلوب وما أبعدها عن
تقوى الله عز وجل

وما أبعد أحوالنا عن أحوال السلف

قال أبو نعيم في الحلية (4/ 212) : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ،
ثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، ثَنَا حَمْزَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَكِيلٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ، يَقُولُ: «مَا أَحَدٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ أَحْرَى
أَنْ يُطْلَبَ بِهِ وَجْهُ اللهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ
انْفَلَتَ مِنْهُ كَفَافًا»

هذه مقالة النخعي وهو بين ظهراني التابعين ، فما عساي أن أقول أنا وقد
كاد أحدنا أن يرى الهوى وطلب العلو والرياسة بعينيه ويلمسه بكفيه ، وإن كان الناس في
ذلك الوقت يطلبون هذه الأمور بالوعظ فاليوم يطلبونه بالكذب والظلم والتملق فحتى الرياء
غير الرياء

وقال أبو نعيم في الحلية (4/313) : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ،
ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ، عَنْ زُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: «وَدِدْتُ
أَنِّي أَنْجُو مِنْهُ كَفَافًا، لَا عَلَيَّ وَلَا لِي»

وما صنعت يا أبا عمرو ما ابتدعت بدعة ، وما توغلت في الرأي وتورعت عن تفسير
كتاب الله فيما لا تعلم ، ورويت الحديث مأحسن ما يروى حتى لم يختلفوا في ضبطك ومراسيلك
أقوى المراسيل وحفظت على الأمة علماً جماً ، وعبادتك وتقواك محل إجماع

فما عسى أن يقول من لم يبلغ كعبك في الفضائل

قال أبو نعيم في الحلية (6/ 268) : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ
اللهِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثَنَا
هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، – يَعْنِي أَخَاهُ – قَالَ:
سَمِعْتُ شُعْبَةَ، يَقُولُ: مَا أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ أَحَدًا طَلَبَ الْحَدِيثَ يُرِيدُ
وَجْهَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا هِشَامًا الدَّسْتُوَائِيَّ وَإِنْ كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنَا
نَنْجُو مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ كَفَافًا لَا لَنَا وَلَا عَلَيْنَا

وحتى أبو بسطام ! ، وهو الذي علم الناس الجرح والتعديل حسبة ، إذا رأى
المشتغل بالحديث اسمه في إسناد انشرح صدره فقد أمنا التدليس والاختلاط إذا رأينا اسم
شعبة ، وابتعدنا عن الخطأ بعد نبلاء الناس عن الرذائل

فهذا الرجل على جلالته يقول هذه الكلمة ، ومع اتهامهم لأنفسهم ما سكتوا
عن تحديث الناس وعن الكلام في الجرح والتعديل لأنهم يرونه واجباً لا يجوز السكوت عنه
والسكوت عنه إثم عظيم ، فخلف من بعدهم خلف يسكتون عن التحديث بالحق وعن الجرح والتعديل
بالعدل ، ويزعمون الورع وخسئوا والله ما هكذا الورع ، ثم بعد ذلك لهم حظهم من الجهل
والهوى

قال أبو نعيم في الحلية (6/ 363) : حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو أَحْمَدَ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ح. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ قِيلَ، قَالَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ لُوَيْنٌ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا الْأَحْوَصِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: وَدِدْتُ
أَنْ أَنْجَوَ، مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ

وقال البغوي في الجعديات : حدثنا محمد بن علي قال : سمعت عبيد الله بن
موسى يقول : سمعت سفيان يقول : ليتني أنجو منه كفافا ، فقال له رجل : تقول هذا يا أبا
عبدالله

 فقال : نحن أعلم ، نحن أعلم

الله أكبر ما كان الصالحون ليتتابعوا ويتخلف عنه رأسهم في عصره أبو عبد
الله سفيان الثوري اشتغل في الفقه حتى صار رأساً في الفقهاء ، واشتغل بالحديث حتى رأساً
في الحديث واشتغل بالعبادة حتى صار رأساً في الزهد ، هذا مع الوقاية التامة عن مخالطة
السلاطين والشدة الظاهرة البينة على أهل البدع

مع كل هذه الكمالات يقول هذه الكلمة فما بالنا نحن ، وأي أحجار نحمل بين
جوانحنا نزعم أنها قلوب ، وإن الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط
من خشية الله ، فالذي يبدو أنها في كثير أشد قسوة

وهذه الكلمة ( وَدِدْتُ أَنْ أَنْجَوَ، مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كَفَافًا
لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ) قد صحت عن الإمام أحمد رواها أبو نعيم في الحلية من طريق ابنيه
عبد الله وصالح

أحمد ابن حنبل ! الذي اعتقد فيه بعض الناس أنه ملك مما يرونه من تقواه
وصيانته

أحمد ابن حنبل الذي ما ترك مبطلاً إلا ورد عليه بدعته ، أوذي في الله فصبر
صبراً عظيماً وقد خذله الإخوان فما تزعزع عن الحق الذي معه وعفا عن ظالمه ، فلما ابتلي
بالسراء كان أشد ثباتاً منه في الضراء

كان يصلي لله عز وجل ثلاثمائة ركعة ، محض النصح لأمة محمد صلى الله عليه
وسلم فبين الاعتقاد الصحيح ، وبين الفقه السليم وأوضح علل الحديث وتكلم في الرواة بالعدل
والإنصاف

وبعد هذا كله يقول هذه الكلمة

فمن نحن أمام هؤلاء اللهم لا تمقتنا ، وجنبنا سبيل من يأتي إلى معاصر أو
متأخر ما بلغ عشر معشار أحوال القوم فيجعله حاكماً عليهم نعوذ بالله من السفه والشقاء

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم