أما أن أهل الحديث أولى بهذا المدح

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

أما أن أهل الحديث أولى بهذا المدح.

أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (المتوفى: 392هـ) اللغوي الكبير له كتاب الخصائص عقد فيه فصلاً يبين فيه صدق نقلة اللغة

وما ذكر فيهم شيئاً من المدح إلا وأهل الحديث أعلى منهم في ذلك

قال ابن جني في الخصائص (3/ 313 ) :” باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة:
هذا موضع من هذا الأمر، لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف فيه تصورهم، ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم، واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له، وعلم أنه لم يوفق لاختراعه وابتداء قوانينه وأوضاعه، إلا البر عند الله سبحانه، الحظيظ5 بما نوه به، وأعلى شأنه. أو لا يعلم أن أمير المؤمنين عليا -رضي الله عنه- هو البادئه والمنبه عليه والمنشئه والمرشد إليه”

أقول : وهذا يقال في أهل الحديث فمن عرف أحوالهم وما عانوه في الرحلة مع شدة التدين وعلم الحديث بر إلهي وذلك بأنه متصل بخير خلق الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله مبيناً للوحي فلا يليق في الحكمة أن يحفظ الوحي ولا يحفظ بيانه ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) علماً أنه لا تصح دعوى اتصال علم النحو بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كما شرحته في منشور مستقل

ثم قال ابن جني :” ويكفى من بعد ما تعرف حاله، ويتشاهد به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه، ومجاورا زمانه. حدثنا بعض أصحابنا -يرفعه- قال: قال أبو عمرو بن العلاء -رحمه الله: مازدت في شعر العرب إلا بيتا واحدا. يعنى مايرويه للأعشى من قوله:
وأنكرتنى وما كان الذى نكرت … من الحوادث إلا الشيب والصلعا
أفلا ترى إلى هذا البدر الطالع الباهر، والبحر الزاخر الذي هو أبو العلماء وكهفهم، وبدء الرواة وسيفهم، كيف تخلصه من تبعات هذا العلم وتحرجه، وتراجعه فيه إلى الله وتحوبه”

أقول : لو قارنت هذا الذي ذكره هنا بحال أهل الحديث لظهر لك تفوقهم ضرورة فأهل الحديث لا ينتظرون حتى يعترف المرء فترى الثقة الجليل عندهم كمثل شعبة أو سفيان أو مالك أو حماد بن زيد ومع ذلك تراهم يعرفون أخطاءهم وبعضهم يفردها بالتصنيف فالثقة يروي ألف حديث يتقنه ويتابع عليه فلا يسلم له أهل الحديث كل ما يروي فإذا روى حديثاً زائداً تفحصوه ونظروا من رواه معه متطلبين لخطئه حتى إذا أخطأ بينوه حتى لو كان خطؤه يسيراً لا يغير شيئاً في المعنى أو مثلاً يغير صحابي الحديث بما لا يؤثر على صحة الخبر تراهم يبينونه

بل إنك تجد الحديث عندهم صحيح لا يختلفون فيه فيأتي أحد الرواة فيرويه من طريق غير الطريق الذي يعرفون فيغطلونه ويشنعون عليه في ذلك

وهذا الإمام مالك روى في الموطأ أحاديث كثيرة كان يحتج بها على الخصوم فما طعن فيه واحد منهم لشدة تثبته وكان يقول بعدة مسائل فمسألة يذكر عليها حديثاً صحيحاً وأخرى يورد خبراً مرسلاً مع آثار الصحابة وأخرى يذكر عليها فتاوى شيوخه في المدينة فقط وما ذلك إلا لشدة التحري والصدق وإلا لو شاء لجعل كل مسألة يقولها فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه التثبت والصدق الذي إما استفاده من وازع داخي أو من شدة الرقابة حوله أو مجموع الأمرين ( وهذا كلام تنزلي وإلا مالك غير مدفوع الجلالة )

وهذا مجرد أنموذج

ثم قال ابن جني بعد كلام كثير له :” وقال لنا أبو علي -رحمه الله- يكاد يعرف صدق أبى الحسن ضرورة. وذلك أنه كان مع الخليل في بلد واحد “فلم يحك عنه حرفا واحدا”.
هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائي وعفته، وظلفه، ونزاهته؛ حتى إن الرشيد كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته، ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته”

ما ذكره من أمارة صدق أبي علي ما أكثر هذه الأمارة في أهل الحديث فهذا الأعمش عاصر الشعبي في الكوفة وما روى عنه حديثاً وكان يروي الخبر عن مجاهد فيسألونه هل سمعته منه فيقول لا ويذكر أنه سمعه من ليث بن أبي سليم مع أنه سمع من مجاهد عدة أحاديث

وهذا محمد بن إسحاق استدل علي ابن المديني على صدقه بأنه يتتلمذ على الشيخ ويصح سماعه منه ثم ينزل الدرجة والدرجتين يعني يروي عنه بواسطتين

وهذا ابن جريج تتلمذ على نافع وسمع منه أحاديث ومع ذلك روى عنه مرة بواسطتين

وفي مبحث العلو والنزول ورواية الأقران عجائب تجد المرء له عشرات الشيوخ ثم تجده فجأة ينزل ويروي عن بعض أقرانه وربما عن بعض تلاميذه وقد وقع هذا لجماعة من الأعيان كسفيان وشعبة ومالك وغيرهم

وأما ما ذكر من جلالة الكسائي فذلك دلالته على الصدق لا تقارن بدلالة صمود أحمد تحت السياط والسجن والتضييق في محنة القول بخلق القرآن وما أكثر محن المحدثين غير أن هذه المحنة هي الأظهر والأشهر.

وقال ابن جني :” فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به في المصرين، كثيرا ما يهجن بعضهم بعضا، ولا يترك له في ذلك سماء ولا أرضا.
قيل له: هذا أول دليل على كرم هذا الأمر، ونزاهة هذا العلم؛ ألا ترى أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة، سب بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة في رواية أو غمز في حكاية محمى جانب الصدق فيها برئ عند ذكره من تبعتها؛ لكن أخذت عليه”

ونقد المحدثين لبعضهم البعض أظهر حتى جمعوا أخطاء الثقات وحتى اشتهر عن علي ابن المديني أنه ضعف أباه وضعف زيد بن أبي أنيسة أخاه ولهم من ذلك شيء كثير

وأحوال المحدثين الدالة على صدقهم مع ما يدركه من درس قواعد الفن عندهم أمرها عظيم وقد تمنيت لو أن رجلاً قوي البيان كابن جني تكلم عنهم بمثل كلام ابن جني عن علماء اللغة والله المستعان

وابن جني نفسه يعلم أن أهل الحديث هم الأساس في أمر النقل حيث قال :” ولله أبو العباس أحمد بن يحيى، وتقدمه في نفوس أصحاب الحديث ثقةً وأمانة، وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا الشان، وأساس هذا البنيان”

فتأمل قوله : ( وأساس هذا البنيان ) ولا يوجد أحد يريد التأكد من صحة منقول في القديم أو الحديث إلا ويتبع منهج أهل الحديث أو منهجاً أقل تحرياً من منهجهم

قال شيخ الإسلام :

المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب
والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث

كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب
ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة
وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك
فلكل علم رجالٌ يعرفون به

والعلماء بالحديث أجلّ هؤلاء قدراً، وأعظمهم صدقاً، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم ديناً
وهم من أعظم الناس صدقاً و أمانة وعلماً وخبرة فيما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك وشعبة وسفيان…

[ منهاج السنة النبوية 7/35 ]