أقدم ناقد لكتاب النصارى المقدس (الإمبراطور الوثني يوليان)…

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

تكلم وول ديورانت في المجلد الثاني عشر من كتابه «قصة الحضارة» عن الإمبراطور الروماني الوثني يوليان (331- 363م) الذي ارتد عن النصرانية وتحول للوثنية، ونقد النصرانية نقداً شديداً، واضطهد النصارى.

والعجيب أن كثيراً من نقده سليم، ويتقاطع مع الفطرة، ولكنه أفسد الأمر بميله للوثنية، ودعوته لأمور هي أسوأ من النصرانية المحرفة.

قال وول ديورانت: “وكتب في مقال له من النقد العالي يقول أن الأناجيل يناقض بعضها بعضاً، وإن أهم ما تتفق فيه هو أنها أبعد ما تكون عن العقل؛ فإنجيل يوحنا يختلف كل الاختلاف عن الثلاثة الأناجيل الأخرى”.

تناقض الأناجيل هذا أمر يعتمده عامة نقاد النصرانية ودعاة مقارنة الأديان، وقد قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

ثم ذكر قوله: “وقصة الخلق التي جاءت في سفر التكوين تفترض تعدد الآلهة. فإذا لم تكن كل قصة من هذه القصص (الواردة في سفر التكوين) أسطورة لا أكثر، وإذا لم يكن لها، كما أعتقد بحق؛ تفسير يخفى عن الناس، فهي مليئة بالتجديف في حق الله. ذلك أنها تمثله، أول ما تمثله، جاهلاً بأن التي خلقها لتكون عوناً لآدم ستكون سبب سقوطه. ثم تمثله ثانياً إلهاً حقوداً حسوداً إلى أقصى الحقد والحسد، وذلك بما تعزوه إليه من أنه يأبى على الإنسان أن يعرف الخير والشر”.

أقول: وهذا الذي نقده مما نعتقد تحريفه، لمخالفته لما عندنا، فالشجرة التي نُهي آدم عن أكلها ليست شجرة المعرفة.

وذكر قوله: “ولِمَ يكون إلهكم غيوراً حسوداً إلى هذا الحد فيأخذ الأبناء بذنوب الآباء؟ … ولم يغضب الإله العظيم ذلك الغضب الشديد على الشياطين والملائكة والآدميين؟”.

هنا يتكلم عن اعتقاد الخطيئة الأصلية، حيث يعتقد النصارى أننا ولدنا بخطيئة أصلية فداها المسيح لمَّا ضحى بنفسه، والمسيح عندهم هو الله، وقد قال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

ثم قال وول ديورانت: “وإنا لنخطئ إذا صورنا يوليان في صورة الرجل الحر التفكير الذي يستبدل العقل بالأساطير؛ ذلك أنه كان يشنع بالكفر ويعده من الحيوانية، ويعلم الناس مبادئ لا تقل بعداً عن الأمور الطبيعية المعقولة عما نجده في أي دين من الأديان؛ وقلما كتب إنسان من السخف مثل ما كتب يوليان في ترنيمته للشمس؛ وقد قبلت التثليث الذي تقول به الأفلاطونية الحديثة، وقال إن الأفكار الخلاقة الأولى التي يقول بها أفلاطون هي بعينها عقل الله؛ وكان يرى أنها هي الحكمة التي صنعت كل شيء، وينظر إلى عالم المادة والجسم كأنه عقبة من فعل الشيطان يضعها في طريق الفضيلة المؤدي إلى تحرير الروح السجينة؛ وفي اعتقاده أن النفس البشرية، إذا ما سلكت طريق التقى والصلاح والفلسفة، قد تتحرر من سجنها هذا وتسمو إلى آفاق التفكير في الحقائق والشرائع الروحية، وتندمج بهذا في الحكمة الإلهية، بل ربما اندمجت في الله الأزلي نفسه. ولم تكن أرباب الشرك الكثيرة، في اعتقاد يوليان، إلا قوى غير شخصية”.

أقول: هو يعتقد بوجود أشياء لا يُشار إليها ولا تُرى، كما يعتقد الجهمية في رب العالمين.

وقال في آخر حديثه عنه: “ولقد أظهر قدرته على السخرية التي قلما تليق بفيلسوف مثله، حين ذكَّر بعض المسيحيين الذين وقع عليهم العدوان بأن “كتابهم المقدس يهيب بهم أن يصبروا على الأذى”.

هذا كمثل سخرية الناس اليوم من النصارى على نص (إذا ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) و(باركوا لاعِنيكم).

وحال هذا الرجل عبرة، فهو يشبه حال الملاحدة والعالمانيين الذين ينقدون الأديان، وربما نقدوا أدياناً باطلة، ولكنهم بعد ذلك يميلون إلى وثنية تؤلِّه الإنسان أو عدمية، فيعود كثير ممن آمن بكلامهم إلى إيمانه القديم الذي نشأ عليه أو يحاول التلفيق.

وقد ذكر ديورانت أنه كان يسرق من النصرانية الأشياء التي يراها فاضلة.

ومن العبرة في حاله أنه مع قوته ونصرته للوثنية ونقده العظيم للنصرانية بقيت النصرانية بعده وما استطاع أن يقوِّضها، بينما فعل النبي ﷺ في النصارى في سنوات قليلة كان أعظم بكثير، مع ما مر به من الشدائد العظام في بداية دعوته، وهذا من دلائل النبوة ومن براهين قوة الحق.

وإذا كان أصحاب النصرانية المحرفة (وقد يكون فيهم موحدون) صمدوا أمام هذا الإمبراطور مع قوته وذكائه وبطشه، فأهل الحق الذين يرجون من الله ما لا يرجو أولئك أولى بالصبر على ما يصيبهم من أعدائهم، {والعاقبة للمتقين}.